في هذه الأيام كثيراً ما يتم تداول أنواع من السيناريوهات والتكهنات والتحليلات والتنبؤات حول الاحتمال الوشيك بسقوط نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحكم الملالي في طهران.
ربما يظن البعض أن هذا الأمر مجرد أمنيات وأحلام تطلقها الجماعات المعارضة الإيرانية المحبطة الموجودة في الخارج، خصوصاً في ظل ما يتبجح به الإعلام الحكومي الإيراني من تطوير للقدرات العسكرية ولدور إيران ونفوذها العسكري والاستخباراتي والسياسي في سوريا والعراق واليمن ولبنان، الأمر الذي يجعل انهيار النظام في إيران يبدو كأنه أمر مستبعد جداً.
لكن لو نظرنا للأمور من زاوية مختلفة، فسوف نرى أن هناك حقائق تجعل من سقوط نظام الملالي مسألة وقت؛ فالانقسامات الداخلية العميقة الأخيرة بين أقطاب النظام، والأوضاع الاقتصادية المتردية باستمرار، والمشكلات الاجتماعية الناتجة عن مصادرة الحريات جراء القوانين التي تتحكم بالحريات الشخصية لمعظم فئات الشعب خصوصاً الشباب والنساء، بالإضافة إلى الفساد المستشري في أجهزة السلطة وقمع الشعوب الإيرانية غير الفارسية ومصادرة حقوقها بالكامل، تجعل النظام الإيراني يعوم وسط بحر من مشكلات، ليس فقط لا يستطيع أن يجد لنفسه مخرجاً منها؛ بل لم يعد مجدياً له أن يعالجها بالوصفات السريعة، كما كان يفعل سابقاً؛ حيث يحقن البلد بالمهدئات لبعض الوقت دون أن يعالج أساس المشكلة، وذلك بسبب تراكمها وطبيعة النظام الآيديولوجية المجبولة على التآكل عبر الزمن، وسياسته البعيدة كل البعد عن العقلانية السياسية التي من شأنها أن تضع رخاء وراحة الشعوب أولى أولوياتها، وتتجنب التدخل في شؤون الجيران، وبناء الإمبراطوريات.
ولو أضفنا لما ذكرنا من مشكلات، ضغوط الإدارة الأميركية الجديدة على إيران، فسوف تقوى عندنا احتمالية سقوط هذا النظام بشكل كبير، وذلك يدفعنا إلى التفكير فيما هو أهمّ؛ أي ما سيحصل في مرحلة ما بعد سقوط نظام ولاية الفقيه. فليس هناك أي شك في أن تلك المرحلة سوف تشهد نهاية التمدد الإيراني، وجملة من التغييرات في منطقة الشرق الأوسط. ولكن ليس هذا هو بيت القصيد، ويبقى التساؤل الأهم يدور حول مستقبل المذهب الشيعي وما ستكون عليه مرجعيته وأتباعه داخل إيران وخارجها…
* أولاً: ما طبيعة النظام الذي سيخلف «الجمهورية الإسلامية» في إيران؟
مما لا شك فيه أن النظام المقبل في إيران سوف يكون علمانياً بامتياز؛ أي سيعمل على فصل الدين عن الدولة، فبعد المعاناة التي ذاقتها الشعوب الإيرانية، لم يبقَ مجال لطرح فكرة الإسلام السياسي مرة أخرى، خصوصاً على شاكلة أطروحة ولاية الفقيه. وانهيار النظام سيسجل نهاية ولاية الفقيه إلى الأبد، والمطلع على تاريخ الفكر السياسي يعرف ذلك جيداً. إن محصلة نظام ولاية الفقيه خلال أربعة عقود حكم فيها البلاد كانت سيئة للغاية؛ حيث بدأ النظام حياته بالإعدامات وتصفية المعارضين ومصادرة الحريات العامة على الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، وعمد إلى إطالة أمد الحرب مع العراق لثماني سنوات، وممارسة التدخلات السافرة في شؤون دول الجوار بهدف إثارة الفتن، وذلك عبر تصدير الثورة على صعيد السياسة الخارجية. أما سياسات النظام في قطاع الاقتصاد، فقد أدت إلى التضخم، وارتفاع معدل البطالة، وتدهور سعر العملة الإيرانية بصورة غير مسبوقة. وبالتأكيد هذه المحصلة لن تغيب عن حسابات النخب السياسية والشعوب في إيران، وهذا ما سيدفعها إلى نبذ أطروحة ولاية الفقيه، وحتى فكر الحكم الديني الذي سيبعد عن الساحة السياسية بالكامل.
* ثانياً: ماذا سيكون فهم المواطن الإيراني من المذهب الشيعي؟
إن المواطن الإيراني الذي استبشر خيراً بـ«الثورة الإسلامية»، وبذل في سبيلها الغالي والنفيس في بادئ الأمر، ذاق الويلات وعانى الأمرّين على يد هذا النظام، لذا سيبقى ينظر بريبة وشك لتعاليم هذا المذهب وتفسيره للأمور جملة وتفصيلاً، وسوف يتجه أكثر نحو الأفكار العلمانية، ولربما الإلحادية، أو حتى تغيير المذهب، وهذا ما نشهده الآن أيضاً؛ حيث هناك ظاهرة التَسَنُّن في الأحواز التي تمثل اليوم مشكلة للنظام الإيراني يسعى لمكافحتها بشتى السبل. كما أن الرواية الإيرانية للمذهب الشيعي التي تزعم أن الإمام الحسين تزوج من ابنة يزدجرد آخر الملوك الساسانيين ولذلك فإن الأئمة من أبناء الحسين بن علي متحدرين من أصول فارسية – زرادشتية، والتي تروج لربط المذهب الشيعي بالعرق الفارسي، ستندفن، فهي لم تعد تجد من يهتم بأمرها من الإيرانيين.
* ثالثاً: كيف سيكون وضع المرجعية الشيعية ومركزية اتخاذ القرار؟
إنه من المحتمل جداً أن تنتقل مركزية اتخاذ القرار في المرجعية الشيعية من إيران؛ وتحديداً من مدينة قم، إلى النجف كما كانت سابقاً، فصعود نظام ولاية الفقيه مثّل نقلة نوعية في تاريخ المذهب الشيعي، حيث إنه تم تسلم السلطة من قبل رجال الدين الشيعة لأول مرة في التاريخ، فحتى في أيام الصفويين لم يصل رجال الدين بهذه القوة لسدة الحكم. إن سقوط نظام ولاية الفقيه سيسحب ما يتمتع به رجال الدين الشيعة من صلاحيات سياسية وسيفقدهم نفوذهم السياسي وما يترتب عليه من امتيازات مادية واقتصادية، ومن المرجح أن يدفع ذلك بمعظم رجال الدين الشيعة للهجرة إلى العاصمة التقليدية للمذهب الشيعي في العراق وسيضطرون إلى اعتزال السياسة.
وفي الختام لا بد من أن نطرح تساؤلاً عن مصير الجماعات الموالية عقائدياً وسياسياً لنظام ولاية الفقيه، مثل «حزب الله» والأحزاب الشيعية الموالية لإيران في العراق وفي باقي البلدان. إن الأدلة التي ذكرناها لم تترك مجالاً للشك حول مصير هذه الجماعات ومستقبلها؛ ففي حال انهيار نظام ولاية الفقيه، فسوف تواجه هذه الجماعات مشكلة كبيرة لكي تستمر في حياتها، لأن خطابها الفكري أثبت عقمه وعدم كفاءته في تحقيق أهداف هذه الجماعات المزعومة على مستوى كبير، كما أن انقطاع الدعم المادي والسياسي الإيراني عنها سيشكل بلا أدنى شك ضربة قاضية لها. وربما على هذه الجماعات من الآن التفكير في هذا الأمر بهدف شق طريقها بعيداً عن نظام صار عبئاً ثقيلاً على مواطنيه والعالم وحتى على نفسه، لكي تستطيع هذه الجماعات أن تحدد أهدافها وترسم استراتيجياتها بطريقة أكثر عقلانية وأقل عدائية تجاه من يحيطون بها لعلها تنجو بجلدها قبل فوات الأوان.
د. كريم عبديان بني سعيد
ناشط حقوقي ومهتم بقضايا إيران