بتاريخِ الثامن والعشرين من شهر أبريل عام 2011، سُجِّلت أوّل حالة نزوحٍ سوريّ إلى الأراضي اللبنانيّة، لتتزايد بعدها أعداد النّازحين حتّى أصبحَ لبنان الصغير “بلد النزوحِ الأكبر” مع استقبالِهِ أكثر من مليون ونصف المليون نازح، منذ بداية الحرب السّورية حتّى اليوم.
هذه الأزمةُ، التي اعتُبرت الأخطر منذ الحربِ الأهليّة اللبنانيّة، تُثيرُ الكثير من المخاوفِ على المستوياتِ كافّةً، سواء السياسيّة نظراً للانقسامِ العاموديّ القائم، والاختلاف الحاصل حول آليّةِ مُعالجةِ الملفّ، أو تلك الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة، وصولاً إلى المخاطرِ الأمنيّةِ التي عاشَ لبنان فصولها، والتوتّر المحلّي الشعبيّ مع ارتفاعِ نُسبِ الجرائمِ، في ظلِّ غيابِ الحلول والخطواتِ الجديّة والرؤية المشتركة والسياسة العامّة بشأنِ كيفيّةِ تأمينِ العودة الآمنة للنّازحين السّوريّين.
وفي هذا السّياق،وبحسب ما نشره الموقع اللبناني “ليبانون ديبايت”، شدّد خبيرُ السياساتِ العامّة واللّاجئين الدكتور زياد الصايغ في حديثهِ إلى “ليبانون ديبايت”، على أنّهُ “يجبُ قراءة ملفِّ النّازحين بشكلٍ منهجيٍّ وعلميّ، بدءاً من خلفيّةِ النزوحِ وأسبابه، ومن ثمّ أعبائه وتداعياته، لننتقلَ بعدها إلى المخاطرِ وصولاً إلى المطالب، وهذه الدراسةُ، كان على الحكومةِ اللبنانيّة أن تُجريها وتُترجمها منذُ بدءِ التوافدِ القصريّ للنازحينَ السّوريينَ إلى لبنان، حيث إنّ عدمَ سلوك هذا المسار، أدّى إلى ارتفاعِ أعدادِ النّازحين إلى مليون ونصف نازح مُشتّت، وسط عجزٍ واضحٍ عن ضبطِ تموضعهِ الجغرافيّ”. لافتاً إلى أنّ “هذا الرقم، غير دقيقٍ أيضاً، على اعتبار أنّ هناك نازحينَ في لبنان، غير مُسجّلين، وهناك فارقٌ كبيرٌ بين النسبةِ التقريبيّة التي أعطتها الدولة اللبنانيّة، والتسجيلِ لدى المفوضيّةِ العليا لشؤونِ اللّاجئينَ الذي حدّد العدد بمليون ومئة وخمسين ألف نازح”.
وأشارَ الصايغ، إلى أنّ “لبنان، الذي لم يتمكّن من ضبطِ الإحصاءِ والموضعِ الجغرافيّ، عَجِزَ أيضاً عن تصنيفِ السّوريّينَ الموجودين داخل الأراضي اللبنانيّة، فهناك عددٌ كبيرٌ منهم ليسوا من النّازحين، بل موجودينَ في لبنان حتّى قبل الحرب السّوريّة، وهم من رِجالاتِ الأعمال، والطلّابِ والعمّال، مع العلم، بأنّ عمليّة التصنيف تُعتبر ضروريّةً، كونها تُساعدُ في معرفةِ أوضاعِ هؤلاء، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والتعلميّة، والتخصّصية، والأهمُّ من ذلك، تُحدّد مناطق إقامتهم في سوريا ما يُسهّل معرفة المنطقة التي سيعودونَ إليها، وبالتالي، فإنَّ هذه الداتا من شأنِها ان تُوفّرَ إمكانيّة عودة النّازحين السّوريّين”.
وفي هذا الإطار، لفت الصايغ، إلى أنّ “هناك تشتّتاً كبيراً في هذه الأزمة، وسط غياب الإمكانيّة لتقديم الخدمات، وهذه مسؤوليّة المجتمع الدوليّ، ومع ذلك، فقد فتحَ اللّبنانيّون أبوابهم واستقبلوا السّوريّينَ في منازلِهم وقلوبِهم، بيدَ أنّ “الإقامة” طالت، ما أتعبَ المجتمعات اللبنانيّة المُضيفة، وتلك المُتعلّقة بالنّازحينَ وحتّى الدول المانحة، من دونِ أنْ ننسى أنَّ التموضعَ الجغرافيّ ينتشرُ بالنسبةِ الأكبر على الأطرافِ اللبنانيّة والمناطق الأكثر حرماناً والتي يُعاني أهلها اللبنانيّين من عدمِ حصولِهم على أبسطِ الخدماتِ الضروريّة، فكيف بالأحرى مع وجودِ هذهِ الكُتلةِ الديموغرافيّة الكبيرة. وهذه التداعياتُ لا تنسحبُ فقط على البُنى التحتيّة؛ بل أيضاً تِلك الخدماتيّة، والاستشفائيّة والتعليميّة وعلى صعيدِ سوقِ العمل، الأمرُ الذي أوقعَ لبنان في مَخاطر كثيرة”.
ولخّصَ الصايغ هذه المخاطر بـ”ازدياد التوتّرات بين النّازحينَ السّوريّينَ واللبنانيّين، بسببِ قِلّة الموارد وسوءِ الحوكمة في ملفِّ النّازحين، نتيجة الخِلاف السياسيّ على آليّة الإدارة، بالإضافةِ إلى تقلّصِ قُدرةِ المُجتمعاتِ المُضيفة على التحمّل، وارتفاع الخطرِ الأمنيّ، على اعتبار أنّ الفقر، وقِلّة الخدمات وغيابِ القُدرةِ على مستوى التعليمِ والاستشفاء، يُعرّضُ النّازحينَ السّوريّينَ إلى الاستغلال، ويدفعهم نحو التطرّفِ والذهابِ باتّجاهٍ آخر، ينتجُ عنهُ توتّراتٍ أمنيّةٍ خطيرة، ويخلق عدم استقرارٍ قانونيّ”.
وكشفَ الصايغ أنّ “هناك آليّةً بسيطةً لعودةِ النّازحين، من شأنِها أن تنزعَ فتيل الصِّدامِ خصوصاً فيما خصّ العلاقة مع النظامِ السّوريّ، وتخلقُ مساحةً مشتركةً، تتمثّلُ في سَلكِ القنواتِ الدبلوماسيّة، من خلالِ سلكِ مسارِ جنيف والأستانة، على اعتبار أنّ المسارين يتواجدُ فيهما النظامُ السّوريّ وكذلك المُعارضة، والمُجتمع الدوليّ. ورئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون قام بخطوةٍ مُمتازةٍ على هذا الصعيد، مع دعوتِهِ سفراءَ الدولِ الخمس الكبرى الدائمة العضويّة في مجلسِ الأمن، ومُمثّل جامعةِ الدولِ العربية، ونائب مُمثّلة الأمين العامّ للأممِ المتّحدة، مُوجِّهاً رسالةً بضرورةِ مُعالجةِ أزمةِ النزوح السّوريّ في لبنان”.
واعتبر أنّ “إطلاقَ النّار على المجتمعِ الدوليّ، لا يُفيد، فهو لا يرغبُ بتوطينِ السّوريّينَ كما يُحاولُ البعض تظهيره بهذهِ الصورة، كما لا يمكنُ مُقارنةُ وضعِ النّازحينَ السّوريّينَ بالوجودِ الفلسطينيّ، فالمسألةُ مُختلفة تماماً من زوايا عدّة، لِذا فإنّ العملَ المفيدَ اليوم هو القيامُ بالخطواتِ السّابق ذكرها، لإعادةِ النّازحينَ ولا سيّما بعدما باتَ هناك مناطقَ آمنة في سوريا جزءٌ منها برعايةٍ دوليّةٍ وإقليميّة، والطلبُ من هيئاتِ الأمم المتّحدةِ في لبنان أن تُنسّقَ مع تلكَ الموجودةِ في سوريا لتحديدِ المناطقِ الأكثر قدرةً على قبولِ العائدينَ إليها، والقيامُ بدراسةٍ داخليّةٍ من ناحيةِ التصنيفِ والآليّة اللّوجستيّة لعودتِهم مع إعطائهم ضماناتٍ على الصعيدِ الأمنيّ، والقانونيّ، والمعيشيّ والاجتماعيّ”. مُشيراً إلى أنّ “هذا السيناريو يحتاجُ إلى قرارٍ سياسيٍّ يُتّخذُ داخلَ الحكومةِ اللبنانيّة، أي إرساء توافقٍ على سياسةٍ عامّة لتتحوّل إلى خارطةِ طريق”.
الصايغ وإذ اعتبر أنّ “المطلوبَ الذهابُ إلى القنواتِ الدبلوماسيّةِ الشرعيّةِ عربيّةً كانت ودوليّةً وإقليميّة مع معطَى إقليميّ غير مُؤسِّسٍ يتمثّلُ بالعلاقةِ مع الأردن وتركيا اللّتانِ تستقبلانِ أيضاً العدد الأكبر من النازحين، ليكون التنسيق معهما أكبر وأفعل”، رأى أنّ “الحلّ يحتاجُ إلى إرادةٍ سياسيّةٍ، عملٍ داخليّ، بعيداً من افتعالِ أيّ سِجالٍ سياسيٍّ وكلامٍ شعبويّ يُزيدُ التوتّرات بين اللبنانييّن والنازحين، أو بمحاولةِ تسجيلِ انتصاراتٍ تُستعملُ في الانتخاباتِ النيابيّة لاستقطاب الأصوات، فالمطلوب العمل سويّاً لحمايةِ الأمن القوميّ، وهذا الأمر يحتاجُ إلى إرادةٍ ووعيٍ وتواضعٍ ممّن يُمسكونَ زِمام المُبادرة للسماعِ أيضاً إلى رجالِ العِلم وليس فقط إلى أهلِ السياسة”.
وكشفَ أنّ “الدولَ المَانحة تَعِبَت ولا سيّما أوروبا، التي باتت مرهقةً ومنهكةً، خصوصاً في ظلِّ التقصيرِ العربيّ، والمساعداتُ التي تصلُ إلى لبنان هي غيرُ كافيةٍ، فهذه السنة وصلنا 27% فقط بانتظار 15% إضافيّة، وهذا يبقى قليلاً ولكن علينا أن لا ننسى أنّ الوضعَ في لبنان والتمديد الثالث لمجلسِ النوّاب والخلاف السياسيّ القائمِ لا يوفّر الثّقة والأمان للدولِ المَانحةِ بتقديمِ الكثيرِ من المُساعدات، فسوءُ إدارةِ الدولة للملفّ يُفقِدها الشفافيّة”.
وختمَ الصايغ بالتأكيد أنّ “على لبنان أن يكونَ عضواً مُراقباً في جنيف وأستانة، لتأمينِ العودةِ الآمنةِ والطوعيّة بهدوءٍ من خلالِ مساحةٍ مُشتركة، وعملٍ دبلوماسيٍّ منهجيٍّ يتلاقى فيه الجميع على مصلحةِ البلدِ ضمنَ عنوان “الكرامةُ للنازحينَ تحتَ سيادةِ الدولةِ حتّى العودة”، وعلينا التنبّه إلى أنّنا نعيشُ اليومَ أخطرَ مرحلة، ما يُحتّمُ علينا إعادة إنتاجِ الحوكمةِ السليمة”.