عاد تراشق التصريحات بين مصر وإيران إلى الواجهة ليؤكد أن الخلافات القائمة بين البلدين ليست ثانوية ولا يمكن تسويتها بسهولة، رغم المحاولات المستترة التي تجري بين حين وآخر لتقليص حدة التباين، كما أن التوافقات الظرفية التي تفرضها تطورات محددة في المنطقة لا تنفي أن ثمة ثوابت لا يمكن تحييدها في العلاقات بين الطرفين.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية المستشار أحمد أبوزيد، في 29 أكتوبر الماضي، إن “مصر تعتبر الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط أحد أهم أهداف سياستها الخارجية، والحفاظ على الأمن القومي العربي واستقرار الدول العربية وسلامتها، ولا سيما دول الخليج، ركيزة أساسية من ركائز الاستقرار في المنطقة”.
جاء ذلك ردا على تصريحات سابقة للناطق باسم وزارة الخارجية الإيراني بهرام قاسمي التي قال فيها “مصر دولة مهمة في العالمين الإسلامي والعربي، لكنها اليوم لم يكن لها الدور الذي يجب أن تقوم به بسبب سياستها الخاطئة السابقة”. وسبق أن قال قاسمي في تصريحات مشابهة في يوليو الماضي “مصر من أهم دول المنطقة والعالم الإسلامي التي يمكنها أن تؤدي دورا بارزا في العالمين الإسلامي والعربي، لكنها لم تمارس دورها المطلوب في المنطقة حتى اليوم”.
دلالات الموقف الإيراني
تعمد إيران توجيه انتقادات للدور الذي تقوم به مصر في المنطقة وتسارع الأخيرة للرد عليها بطرح دلالتين:
* الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها إيران في الفترة الحالية، بسبب تدخلاتها في أزمات المنطقة وتصعيدها المستمر مع الولايات المتحدة، تدفعها إلى تغيير لهجتها تجاه القوى الإقليمية التي تمارس أدوارا في ملفات تحظى باهتمام خاص من جانبها.
ويتسبب ذلك كثيرا في ارتباك مواقفها وحساباتها، باعتبار أن هذه الضغوط تضعها في موقع دفاعي لا تستسيغه لأنه يفقدها زمام المبادرة ويضيق من هامش المناورة وحرية الحركة المتاحة أمامها، وهو ما انعكس حتى في رؤيتها لدور القاهرة، حيث سبق أن أشارت على لسان المسؤول نفسه، في 16 يوليو الماضي، إلى إمكانية تعزيز العلاقات بين الطرفين.
* الاستقرار الإقليمي بات أحد العناوين الرئيسية للخلافات القائمة بين الطرفين، بعد أن تحولت تدخلات إيران إلى أحد أهم مصادر تهديده. ولذا كان لافتا أن تصريحات الناطق باسم الخارجية المصرية جاءت بعد أيام قليلة من تأكيد الرئيس الإيراني حسن روحاني أنه “لا يمكن في الوقت الحاضر اتخاذ إجراء حاسم في العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا والخليج من دون إيران”.
وهنا، لم يكن أمام القاهرة إلا الرد على طهران، ليس فقط باعتبار أن الأخيرة تسعى إلى إدراج شمال أفريقيا ضمن مناطق نفوذها المزعومة، بل وأيضا لأن هذه التصريحات تكشف زيف الادعاءات الإيرانية المستمرة التي سبق أن تبناها روحاني نفسه وتقوم على مبادئ التعاون وحسن الجوار والانفتاح على الخارج.
وأكد روحاني بذلك أنه لا يختلف كثيرا عن المحافظين المتشددين الذين يكشفون باستمرار عن طموحات إيران التوسعية، وهي طموحات لن تتسامح معها بأي شكل من الأشكال القوى الإقليمية،.
كانت العلاقات بين القاهرة وطهران خلال عهد الرئيس السبق حسني مبارك تتسم بالهدوء نسبيا، وعدم رغبة كل طرف في الانجرار إلى صدام يمكن أن تكون عواقبه وخيمة على الجانبين. وبقيت مسألة التدخلات الإيرانية في الشؤون العربية والمصرية عقبة ضد أي تفكير في تطوير العلاقات.
ويمكن تفسير تغير اللهجة الإيرانية تجاه مصر خلال الفترة الأخيرة في ضوء اعتبارات رئيسية ثلاثة: الأول أن إيران لا تنظر بارتياح إلى نجاح القاهرة في تحقيق خروقات مهمة في بعض الملفات الإقليمية التي تكتسب أهمية خاصة من جانبها، لا سيما على صعيد إنجاز المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس بعد عشرة أعوام من الصراع والخلاف.
وتعتقد إيران أن أي جهود للتسوية الخاصة ببعض الملفات تهدف إلى تقزيم دورها، خاصة أنها تعتبر أن إنجاز هذه المصالحة يتوازى مع مساع لدفع حركة حماس إلى الاقتراب من محور الدول الداعية إلى مكافحة الإرهاب، الذي لم يعد يركز فقط على دور قطر في هذا الملف وإنما دور إيران أيضا، وهو ما انعكس في تأكيد الدول العربية الأربع (مصر والسعودية والإمارات والبحرين) أن “إيران أكبر دولة راعية للإرهاب” خلال اجتماع وزراء إعلامها بالمنامة في 20 أكتوبر.
أبدت إيران اهتماما خاصا بالزيارة التي قام بها وفد حركة حماس إلى طهران برئاسة نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري في 21 أكتوبر، حيث لم تهدف من خلالها إلى تقليص حدة التوتر في العلاقة بين الحركة والنظام السوري بتنسيق مع حزب الله فحسب، بل سعت عبرها إلى توجيه رسائل بأن علاقتها مع الحركة ما زالت قوية وأن الأخيرة لا تستطيع الاستعاضة بسهولة عن دورها كظهير إقليمي لها.
لا يمكن استبعاد أن يتحول هذا الملف، في لحظة ما، إلى محور خلافي آخر بين القاهرة وطهران، في حالة ما إذا تأثرت التوجهات الجديدة للحركة بالسياسة التي تتبناها إيران في الملفات الإقليمية المختلفة أو محاولاتها الرد على الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها.
الاعتبار الثاني الذي يمكن أن توضع في إطاره تغير اللهجة الإيرانية تجاه مصر يتعلق بموقف مصر من الاستراتيجية الجديدة التي أعلنتها الولايات المتحدة تجاه إيران، خاصة أنها ركزت على قضايا تحظى بأولوية خاصة في السياسة المصرية، ولا سيما ما يتعلق بالاستقرار ومكافحة الإرهاب. وأكد الناطق باسم الخارجية المستشار أحمد أبوزيد أن “هذه الاستراتيجية تضمنت عناصر تحمل أسباب ودواعي قلق مصر تجاه سياسات إيران التي تؤدي إلى عدم استقرار دول المنطقة وتؤثر على الأمن القومي العربي وأمن دول الخليج الذي يعد امتدادا للأمن القومي المصري”.
ضغوط إقليمية
لا تبدي إيران ارتياحا لمثل هذه المواقف التي تبنتها دول أخرى في المنطقة إلى جانب مصر، باعتبار أنها تفاقم شعورها بالضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها، بسبب سياساتها التدخلية ومساعيها المحتملة للاحتفاظ بجانب عسكري خفي في برنامجها النووي وتهديداتها المستمرة لأمن ومصالح دول المنطقة.
وهناك اعتبار يؤخذ في الحسبان عند قراءة تحولات العلاقة المصرية الإيرانية، وهو أن الجهود التي تقوم بها القاهرة للوصول إلى اتفاقات لوقف إطلاق النار وخفض التصعيد في بعض المناطق داخل سوريا لا تقابل، باستمرار، بموقف إيجابي من جانب طهران، خاصة أنها باتت تتضمن بنودا لا تتوافق مع حساباتها، وكان آخرها اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب دمشق، الذي تم التوصل إليه برعاية مصرية وضمانة روسية.
وقضى الاتفاق، الذي وقع عليه كل من جيش الإسلام وجيش أبابيل وأكناف بيت المقدس، برفض التهجير القسري لسكان تلك المنطقة، وهى سياسة إيرانية بامتياز تتبعها طهران منذ عدة أعوام داخل سوريا بشكل لا يتوافق مع مصالح حتى أقرب حلفائها وهو روسيا التي لم تعد تخفي امتعاضها من تحركات إيران والميليشيات الموالية لها.
ويمكن القول إنه كلما تمكنت القاهرة من استعادة دورها الإقليمي كقوة إقليمية داعمة للاستقرار، أدى ذلك إلى اتساع مساحة خلافاتها مع طهران. وهنا يمكن أن يلقي التاريخ بكلمته، ففترات التقارب والتعاون المحدود بين الطرفين لا تقارن أبدا بمراحل التوتر والصراع التي امتدت لعقود طويلة، لأن طهران لا تكف عن التدخل في شؤون مصر بصورة غير مباشرة، عبر محاولاتها الرامية إلى دعم الشيعة ونشر مذهبهم، واحتضان بعض رموز الجماعات الإسلامية التي على علاقة بتاريخ طويل من العنف والإرهاب في مصر؛ كما لم ينس المصريون أن إيران احتفت بخالد الإسلامبولي المتهم في قضية اغتيال السادات وكرمته بأن أطلقت اسمه على أحد أكبر شوارع طهران.