كان من مقولات بارون دي مونتيسيكيو، رائد الحقوق والحريات “المزعوم”، خلال عصر النهضة في أورويا، “حاشا لله تعالى وهو ذو الحكمة البالغة أن يكون قد أودع روحاً، أو على الأخص روحاً طيبة، في جسد حالك السواد”.
فالعنصرية الأوروبية، والغربية عمومًا، تجاه الأفارقة، والمتجذرة في العقل الجمعي الأوروبي حاليًا، ليست وليدة اللحظة الراهنة بقدر ما هي إرث حضاري تتناقله الأجيال الأوروبية جيلاً بعد جيل، ولعل أحدث حلقات تلك العنصرية البغضية، ما كشفت عنه منظمة العفو الدولية، في 12 ديسمبر 2017، من اتهامات لحكومات أوروبية بالتواطؤ في قضية توقيف مهاجرين ضمن ظروف وصفتها بـ”المروعة” في ليبيا.
أوروبا العنصرية في التقارير الحقوقية:
فقد اتهمت المنظمة الحقوقية الدولية المرموقة أوروبا بدعم ما وصفته بأنه “نظام معقد من الانتهاكات والاستغلال بحق اللاجئين والمهاجرين”، بهدف منع المهاجرين من عبور البحر المتوسط من خلال توقيفهم بمراكز احتجاز في دول إفريقية، وخاصة في ليبيا، وتعريضهم لانتهاكات جسيمة، بحسب العفو الدولية.
وكان تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة، يونيسيف، صدر في سبتمبر الماضي، قد كشف “أن المهاجرين الذين تقل أعمارهم عن 24 عامًا ويحاولون الوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط يواجهون مخاطر عالية تتعلق بالاستغلال إذا كانوا من منطقة إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى”، وأضاف التقرير “أن المراهقين والشباب الأفارقة الذين سافروا بمفردهم أو الذين لديهم مستويات أدنى من التعليم كانوا أكثر عرضة لممارسات الاتجار بالبشر والاستغلال الجنسي”.
وأكد تقرير اليونيسيف أن المهاجرين المنحدرين من دول إفريقية ويهاجرون عبر طريق شرق البحر المتوسط، تزيد معدلات استغلالهم أربع مرات مقارنة بالمهاجرين الآخرين، في إشارة إلى أن “العنصرية ربما تكون العامل الكامن وراء زيادة المخاطر بالنسبة لأولئك الشباب”، وفقًا للمنظمة.
مفوضية الأمم المتحدة السامية لشوؤن اللاجئين، كانت بدورها قد أصدرت تقريرًا في يوليو 2017، كشفت فيه أن الإتجار بالمهاجرين الأفارقة بغرض الاستغلال الجنسي يتزايد ويطال النساء النيجيريات والكاميرونيات بشكل خاص، ويتزايد كذلك بين الأطفال الأفارقة غير المصحوبين والمفصولين عن ذويهم الذين يسافرون بمفردهم، حيث يمثلون نحو 14% من مجموع الوافدين إلى أوروبا عبر طريق وسط البحر الأبيض المتوسط، وغالبيتهم يأتون من إريتريا وجامبيا ونيجيريا.
استراتيجية العنصرية الوقائية:
هذه الانتهاكات، التي وصلت إلى حد العبودية والاتجار بالبشر، والتي كشفت عنها تلك التقارير الحقوقية الدولية مؤخرًا، جاءت برعاية أوروبية خالصة، وذلك في سياق اجتماعات قمة أوروبية – إفريقية احتضنها قصر الإليزيه بباريس، نهاية أغسطس 2017، ضمت قيادات دول ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، والنيجر وتشاد وليبيا، إضافة إلى وزيرة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، لبحث ملف التدفقات الكثيفة للمهاجرين الأفارقة على الشواطئ الأوروبية.
فخلال هذه القمة، تقدمت فرنسا، من خلال رئيسها إيمانويل ماكرون، باقتراح عنصري مقيت، يقضي بإنشاء مراكز استقبال أوروبية لفحص طلبات اللجوء في البلدان الإفريقية نفسها، وتحديدًا في 3 دول منها؛ وهي ليبيا والنيجر وتشاد، بهدف “الفصل” بين من يحق له الهجرة إلى أوروبا، ومن لا يحق له ذلك، ومن ثم “ردع” من يرفض طلبه عن محاولة الوصول إلى الشواطئ الأوروبية.
ومن خلال ذلك المقترح الفرنسي، تكون أوروبا، في حال أُنشئت هذه المراكز وتم تشغيلها بشكل فعال، قد تخلصت من “عبء” استقبال عشرات آلاف من المهاجرين الأفارقة، واستقبلت فقط الذين يحق لهم اللجوء والهجرة بموجب القوانين الأوروبية.
لكن المقترح الفرنسي قوبل بفتور أوروبي، ليس لعنصريته الفجة، ولكن بسبب ما اعتبره القادة الأوروبيون بالقمة سعيًا فرنسيًا لسحب بساط قضية اللاجئين من تحت أقدام الأوروبيين، وخاصة إيطاليا التي تنظر إلى نفسها باعتبارها المعنية الأولى بملفات الهجرة بإقليم المتوسط.
في حين أن تلك الانتهاكات الإنسانية الجسيمة تتم تحت سمع وبصر الأوروبيين، وبدعم وتنسيق كاملين مع بعض الحكومات الإفريقية المحلية، فقد كشفت صحيفة “إكسبرس” البريطانية، في تقرير نشرته في أغسطس 2017، أن وحدات من القوات الخاصة البريطانية اُرسلت إلى ليبيا لمواجهة خطر تنظيم “داعش”، والتعامل مع شبكات تهريب المهاجرين.
وأكدت الصحيفة أن “80 عنصرًا من قوات خدمة القوارب الخاصة مدعومين بأربعين من القوات البريطانية، تم نشرهم في ليبيا إلى جانب قوات من الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا”، ووفقًا للصحيفة؛ “تضم القوات البريطانية متخصصين في قيادة طائرات من دون طيار، يمكنهم مراقبة الصحراء المفتوحة، إلى جانب فريق متخصص بالحرب الإلكترونية لمراقبة الاتصالات الإلكترونية”.
مضيفة أن “تلك القوات تستهدف شبكات تهريب المهاجرين، وتضغط على القوات الليبية لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد مهربي البشر وتدمير قوارب التهريب”.
التحركات والاتفاقات الأوروبية الأخيرة حول الهجرة واللجوء، تكشف وفقًا لمحللين معنيين بالشأن الإفريقي، عن انتقال أوروبا من مرحلة تمويل برامج تنموية وأمنية في الدول الإفريقية المعنية لحث المهاجرين على البقاء في بلادهم ودعم قدرة الحكومات على مراقبة الحدود، إلى مرحلة الضغط على هذه الدول كي تحتجز اللاجئين وتقوم بفرزهم لمنح اللجوء لمن يستحقونه وتوطين الباقين في دول العبور أو إعادتهم لدولهم.
وربما يكون إحدى ثمار الحصاد المر لاستراتيجية أوروبا العنصرية الوقائية، سالفة البيان، هي تلك المشاهد اللاإنسانية المروعة التي تناقلتها وسائل الإعلام العالمية في نوفمبر 2017، لمزاد علني يباع فيه مهاجرون شبان من دول جنوب الصحراء الكبرى في ليبيا ليكونوا عمالاً في المزارع.
الاتجاهات اليمينية والمهاجرون الأفارقة:
ذلك المشهد الذي استفز الاتحاد الإفريقي ليصدر بيانًا مفاده “إن ممارسات العبودية المعاصرة يجب أن تنتهي، وإن الاتحاد الإفريقي سيستخدم جميع الوسائل المتاحة له لوضع حد لبيع المهاجرين”، ربما لن يمنع، وفقًا لمراقبين، أوروبا المأزومة اقتصاديًا والتي لا تريد الاقتطاع من ميزانياتها لصالح تنمية إفريقيا، من تفضيل الاستراتيجيات العنصرية الوقائية ذات البعد الأمني لمجابهة أزمات المهاجرين، باعتبارها الأقل تكلفة والأسرع تأثيرًا، والأكثر تلبية لاتجاهات الرأي العام الأوروبي في ظل تزايد نفوذ الاتجاهات اليمينية وظاهرتي العداء للأجانب والإسلاموفوبيا.
وفي هذا السياق، يعتقد بعض المحللين أن ظاهرة ازدياد عدد اللاجئين والمهاجرين في الدول الغربية، وخاصة القادمين من إفريقيا والشرق الأوسط، كانت محفزًا رئيسًا لبزوغ نجم اليمين المتطرف في المشهد السياسي الأوروبي، سواء على مستوى الانتخابات البرلمانية والمحلية أو حتى الرئاسية، وكذلك على مستوى البرلمان الأوروبي.
ومن ثم فقد وجدت الأحزاب الأوروبية التقليدية نفسها مضطرةً للتعامل مع الأحزاب اليمينة المتطرفة، في حلبة التنافس الانتخابي، بعد أن استطاعت الأخيرة إثبات قدرتها على أن تكون بديلاً شعبيًا عن الأحزاب التقليدية، وأن تكون جديرة بثقة الناخب الأوروبي.
فقد دفعت حالة الإحباط الاقتصادي، وما استتبعها من تهميش اجتماعي، إلى بحث قطاعات أوروبية معتبرة عن مسلك قيمي يقود إلى الشعور بالتميز والفوقية، عبر إذكاء نمط من أنماط الانتماء الهوياتي المتشدد، الذي يتمثل في الإعلاء من قيمة النعرات القومية العنصرية القائمة على تفوق جنس ما ونقائه أمام طوفان المهاجرين الذين يُحمّلهم هذا المسلك جل الإخفاقات السياسية والأزمات الاقتصادية في مجتمعات الهجرة.
وهكذ توالت نجاحات اليمين المتطرف الانتخابية في أوروبا، وخاصة في الدول الكبرى، فجاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؛ وفوز حزب الجبهة الوطنية الفرنسي بقيادة مارين لوبان في انتخابات البرلمان الأوروبي بنسبة 25%، وحصوله على نسبة مقاربة في الانتخابات المحلية عام 2015، ثم منافسته القوية على مقعد الرئاسة في 2017، وكذلك صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” في المشهد السياسي الألماني بقوة 2016خلال عام.
وقد جاء فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2016 بمثابة انتصار للأفكار اليمينية المتطرفة، بالنظر إلى خطابه الشبعوي الذي يتماهى، بشكل كبير، مع خطاب اليمين الأوروبي المتطرف الذي يميل إلى إثارة مخاوف الرأي العام من المهاجرين واللاجئين وتحميلهم مسؤولية تفشي البطالة والعنف والجريمة المنظمة، بما يمكن معه وصف تلك الأحزاب بـ”الأحزاب ضد الهجرة”، حيث ترفع هذه الأحزاب لواء العداء للأجانب وترفض مقولات التنوع الثقافي وقبول الآخر، ومن ثم ترفض الاندماج داخل الاتحاد الأوروبي وتدعو للانفصال عنه.
السياقات الأوروبية الراهنة تؤشر إلى أن إشكاليات المهاجرين الأفارقة لن تجد لها حلاً على المدى القريب والمتوسط، لاسيما في ظل الظروف المعيشة وإشكاليات التنمية التي تؤرق الدول الإفريقية، والتي تعتبر العامل الرئيس وراء تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية، لكن ما يجب التأكيد عليه هنا، هو أن تخلف التنمية في إفريقيا هو نتاج أساسي للسياسات الأوروبية والغربية غير العادلة التي تنظر إلى إفريقيا باعتبارها محلاً للمواد الخام من جهة، وسوقًا لتصريف فوائضها الإنتاجية في جهة أخرى.
ولتحقيق استراتيجياتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، فإن الدول الأوروبية لا ترحب بديمقراطية حقيقية في القارة الإفريقية، تقود إلى تنمية مستدامة، وتفضل عليها سياقات التبعية القائمة على ديمقراطية شكلية زائفة، وتغييب المنظور الإنساني في التعامل مع مشاكل القارة، مقابل الاعتماد على الاقترابات الأمنية القمعية، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من استنزاف القارة الإفريقية وتوسيع رقعة بؤر الصراعات والتوترات الإقليمية، ومن ثم بقاء جذوة الهجرة واللجوء وتبعاتهما الإنسانية متقدة ومرشحة لمزيد من الاشتعال حتى إشعار آخر.
* كاتب ومحلل سياسي – باحث في العلاقات الدولية