أثارت رسالة انتهاء صلاحية اتفاق الصخيرات التي ألقى بها المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي مؤخرا، مخاوف من احتمال عودة الخيار العسكري مجددا، في ظل تعثر خطة المبعوث الأممي غسان سلامة في مرحلتها الأولى، بسبب الخلافات بين مجلسي النواب والأعلى للدولة على تعديلات الاتفاق السياسي التي جرت مفاوضاتها في تونس.
وبحسب ما أوردته صحيفة “العرب” اللندنية، دون ذلك الاتفاق، الذي قد يمثل حدا أدنى وليس أقصى للسلام، قد تعود ليبيا إلى مربع الصفر، وتكرار سيناريو صيف العام 2014، عندما اشتعلت حرب أهلية بين تحالفات عسكرية في الشرق والغرب.
وحفتر، الذي منح السياسيين قبل ستة أشهر مهلة لإنهاء خلافاتهم وإلا يتدخل الجيش، ربما يدرك أكثر من غيره أن إنهاء صلاحية الصخيرات، يشي – في أحد احتمالاته – باللجوء إلى الخيار العسكري، عبر غزو طرابلس والسيطرة على ميليشيات العاصمة وإنهاء الانقسام بين الشرق والغرب.
ولكن الخيار العسكري قد لا يكون مواتيا في الوضعية الليبية الراهنة لاعتبارات متعددة منها:
* حكومة الوفاق، المدعومة أمميا، كرّست لمصالح دولية، خاصة مع شركائها الأوروبيين والولايات المتحدة، بما يصعّب قبولهم لأي سيناريو لدخول طرابلس عسكريا، كما ظهر مثلا في الموقف الإيطالي الأخير الداعم للانتخابات والرافض لأي حل عسكري. كذلك الموقف الأميركي الداعم لحكومة فايز السراج والمسار السياسي إبان زيارة الأخير لواشنطن.
* ليس من مصلحة قوى إقليمية حليفة لحفتر مثل مصر تحفيز الخيار العسكري وإنهاء اتفاقية الصخيرات، لأن ذلك الخيار سيكون مكلفا، وغير مضمون العواقب، وقد يعرّض الحلفاء لخسارة ما حصدوه من نفوذ ودعم لبناء مؤسسات الدولة في مواجهة الإرهاب في الشرق حال فشل الجيش الوطني في السيطرة على غرب ليبيا أو حدث انشقاق في تحالفات الشرق سواء القبلية أو المدنية اعتراضا على الخيار العسكري.
*أي خيار عسكري قد يقدم عليه حفتر ضد غرب ليبيا لن يكون دون كلفة أو معارك، خاصة وأن ذلك الخيار قد يحفز القوى والميليشيات في المنطقة لرص صفوفها وتجاوز خلافاتها، وهو ما برز في إعلان كتيبة النواصي – أحد أكبر الكتائب التابعة لحكومة الوفاق – عن رفضها لأي انقلاب على مؤسسات الدولة أو إعادة حكم الفرد، في أعقاب بيان حفتر لإنهاء صلاحية الصخيرات.
* ثمة تغيّرات في العلاقات القبلية ربما لا تدعم أي خيار عسكري بديل للصخيرات، وبخلاف أن وتيرة المصالحات القبلية تأخذ زخما أكبر وبرغم مما يعترضها من عوائق في الإنفاذ على الأرض، خاصة بين مصراتة وتاورغاء، فإن قبائل الزنتان وميليشياتها القوية في غرب ليبيا قد تقف ضد أي تحرك عسكري لحفتر، في ظل علاقاتها المتوترة عسكريا مع ورشفانة المدعومة من الجيش الوطني. ولوحظ أن بعض القبائل القوية كالعبيدات في شرق ليبيا أعلنت مؤخرا النأي عن العمل السياسي وتفضيل العمل الاجتماعي.
ليس من مصلحة قوى إقليمية حليفة لحفتر مثل مصر تحفيز الخيار العسكري وإنهاء اتفاقية الصخيرات، لأن ذلك الخيار سيكون مكلفا، وغير مضمون العواقب وإذا كانت هذه الاعتبارات وغيرها تقيّد اللجوء المحتمل إلى الخيار العسكري، فماذا يريد خليفة حفتر من إعلان انتهاء صلاحية اتفاق الصخيرات وهو الذي سبق له الاتفاق قبل عدة أشهر مع السراج في باريس على عقد انتخابات في العام 2018، بما يشير إلى أنه كان ميالا للمسار السياسي الذي يتأسس على اتفاق الصخيرات.
يمكن تفسير بيان حفتر حول إنهاء الصخيرات بأنه نوع من الرسائل المركّبة ذات الأغراض المتعددة سواء للحلفاء أو المناوئين له داخليا وخارجيا، خاصة أننا نتعامل هنا مع شخصية عسكرية، لديها بالتوازي خبرة سياسية واسعة في المعارضة الليبية إبان حكم العقيد معمر القذافي، بما يعني أن خطواته تنطوي على إدراك للسياقات السياسية وموازينها، وهنا يمكن طرح عدة تفسيرات لبيان حفتر الأخير.
* فرض سقف على قواعد اللعبة الداخلية، حيث يبعث حفتر عبر بيانه برسالة للقوى السياسية سواء في غرب أو شرق ليبيا مفادها بأنه لا يزال ممسكا بقواعد اللعبة، حتى في جانبها السلمي، وبإمكانه وقفها، ما يعني أنه يضع قاعدة مستقبلية تكرّس وضعيتين “الجيش الحارس والمتدخل معا”، ويمكن توظيف أيهما، حال فشلت أو نجحت مراحل الخطة الأممية، في إنهاء تعديلات الصخيرات، ثم عقد مؤتمر وطني، وإقرار الدستور، وعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية.
* تثبيت واستباق النفوذ العسكري، ويعطي بيان حفتر رسالة أخرى تتعلق بقدرته على السيطرة العسكرية، ما يعني تثبيت موقفه كقائد للجيش الليبي لا يمكن تهميشه في معادلات القوة الليبية، بخلاف صياغة معادلة استباقية توازنية حول طبيعة العلاقات العسكرية– المدنية، والتي تأخذ اتجاهات تميل إلى إخضاع القيادة العسكرية للمدنية، حال توحيد الجيش الليبي الذي جرت حوله جولات تفاوضية في القاهرة خلال الأشهر الماضية بين ضباط عسكريين من شرق وغرب ليبيا.
* بناء مسافات مع حلفاء الخارج تسهم في دعم شعبيته الداخلية، وأنه ليس وكيلا لأي قوى إقليمية أو دولية في الصراع الداخلي، كما بدا في تأكيد حفتر على خضوع جيشه الوطني لإرادة الشعب الليبي وحده.
ولعل تلك المسافات تفسّر نسبيا التناقض بين مضمون بيان حفتر، وما أكد عليه بيان وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر مؤخرا من دعم اتفاق الصخيرات كمسار لحل الأزمة الليبية ورفض الحلول العسكرية.
وربما يساعد ذلك حفتر نفسه لاحقا في التمهيد للانتقال من السياق العسكري إلى السياسي، عبر خوضه المحتمل لانتخابات رئاسة ليبيا في العام القادم، مستثمرا في ذلك حملات التفويض والتظاهرات الشعبية الداعمة له في بعض مناطق الغرب والشرق، وملوّحا في الوقت عينه لأنصار القذافي بأنه يمكن الرهان عليه، بما قد يسهم في اجتذابهم أو حتى على الأقل الحد من الفرص المحتملة لعودة سيف الإسلام القذافي، مع تنامي المؤشرات حول احتمال ترشحه للرئاسة.
* تعزيز الاتجاه الغربي لاستيعابه، إذ ينطوي بيان حفتر على رسالة غير مباشرة للمجتمع الدولي بأنه الرجل الذي يمكن أن يتحرّك لسد الفراغ، حال تعثر الحل السياسي في ليبيا، بما يعزز من شراكاته وعملية استيعابه من القوى الغربية والتي أخذت بالفعل أبعادا متنامية خلال العام الجاري، مع فرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا وروسيا.
وعلى الأرجح، فإن هذه الرسائل التي ينطوي عليها مضمون بيان حفتر حول إنهاء صلاحية الصخيرات قد تجعله لا يذهب إلى تهديدات فعلية على الأرض على الأقل في المرحلة الراهنة، بما يثير حفيظة القوى الداخلية والإقليمية والدولية، ومن ثم، فإن ذلك البيان ليس إلا نمطا من أدوات الضغط الاستباقي لفرض قواعد اللعبة على المشهد السياسي الليبي حال أخذت الخطة الأممية المسارات المقرّرة لها.