تتصاعد مظاهرات الغضب الأردني يوما بعد آخر بسبب قانون ضريبة الدخل الذي فرضته حكومة هاني الملقي على مواطني الأردن، رغم الظروف الصعبة التي يعانيها الأردنيون بسبب اقتصاد متدني ودخول أكثر تدنيا، بعد أن أثرت أحداث المنطقة ودول الجوار على اقتصاديات الدولة الهاشمية، وبخاصة الأزمة السورية التي ألقت بظلالها على الأردنيين لاستضافتهم ما يزيد عن مليون لاجئ سوري – بحسب بيانات الحكومة الأردنية- كذلك الحرب على تنظيم داعش في العراق كان من العوامل التي هددت الأردن في أمنه واقتصاده.
والمتابع للمشهد الأردني سيجد أن المظاهرات التي اندلعت في المملكة الهاشمية واتخذت من الدوار الرابع في العاصمة عمّان مركزا لها، حيث مقر مجلس الوزراء، سيجد أن نفس المظاهرات اندلعت في آواخر يناير الماضي بسب ارتفاع أسعار بعض السلع والخدمات وزيادة أسعار الخبز بنسبة 100% وزيادة أسعار المحروقات. وقالت الحكومة وقتها، إنها تسعى من هذه القرارات إلى زيادة إيراداتها الضريبية بمقدار 540مليون دينار ما يعادل 761 مليون دولار.
إذن طريق الحكومة الأردنية للإصلاح الاقتصادي بدأ وتحمل معه الأردنيون مرحلة منه، إلا أن الحكومة بقيادة هاني الملقي لم ترى شوطا ثانيا لاستكمال تلك الإصلاحات إلا من جيوب الشعب المطحون في تدبير قوته واحتياجاته الأساسية، وما كان لحكومة الملقي إلا الانصياع لطلبات صندوق النقد الدولي الذي يفرض شروطه على الدول التي تمد يدها إليه وكان الأردن من بينها. وبدلا من أن تجهد الحكومة الأردنية نفسها وتفكر في حلول بديلة تنعش الاقتصاد الأردني، وما أكثرها، خاصة وأن العقل الأردني من العقول النيرة وحاضرا في كافة المجالات في داخل دولته وخارجها، إلا أن “الملقي” وحكومته اختاروا الحل الأسهل، ما فتح على المملكة باب جهنم بمظاهرات لم تخمد حتى الآن وتتصاعد ألسنة لهبها، حتى بعد تدخل العاهل الأردني سريعا، لتستقيل حكومة الملقي، ومعروف ضمنيا أنها أقيلت.
لقد لخص الأردنيون حالهم في مظاهرات الغضب وقالوا للدولة بلسان حالهم “معناش”، ورغم اللهجة الدارجة للكلمة إلا أنها عبرت عن عمق الدلالة سياسيا واقتصاديا لشعب يفتقر للموارد الطبيعية ويعاني ظروفا أمنية وسياسية أثرت على اقتصادياته، لم يكن له ذنب فيها. تناثرت التحليلات هنا وهناك، وموجة من التخوين للمظاهرات، وأن إسرائيل وأمريكا من وراءها في موجة جديدة مشابهة لما عرف بثورات الربيع العربي في شتاء 2011 التي طالت رياحها تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، وأن السبب في الأردن هو ما يعرف بـ”صفقة القرن” التي ترعاها أمريكا وتنتظرها إسرائيل، والتي تقضي بإقامة دولة فلسطينية تشمل حدودها قطاع غزة والمناطق (أ، وب) وأجزاء من المنطقة (ج) في الضفة الغربية، على أن توفر الدول المانحة 10 مليارات دولار لإقامة الدولة وبنيتها التحتية بما في ذلك مطار وميناء بحري في غزة والإسكان والزراعة والمناطق الصناعية والمدن الجديدة.. ويتم توطين بقية الشعب الفلسطيني في المملكة الأردنية، وهو ما يرفضه الأردنيون والعائلة الحاكمة.
وذهبت التحليلات إلى أن موجة الغضب الشعبي إنما هي ضغوط أمريكية على العاهل الأردني حتى ينصاع إلى تنفيذ “صفقة القرن”، وإما تحويل المظاهرات إلى ثورة شعبية تطيح بحكم الأسرة الهاشمية، والمجئ بنظام بديل بقيادة المعارض الأردني مضر زهران والذي كشفت إسرائيل علنا، في بجاحة منقطعة النظير، عن أن البديل في حال لم يوافق ملك الأردن على “صفقة القرن”.
على أي حال، ومهما كانت الأسباب، وإذا سلمنا بنظرية المؤامرة (التي يرفضها البعض)، وأن ما يحدث مخطط خارجي ضد الأردن، فلماذا تفتح الحكومة أبوابها الخلفية والأمامية لتزايد تلك المظاهرات وتوجد بأيديها أسباب مشروعيتها.
إن التقاء غضب الشعب الأردني مع المخططات الخارجية إذا كان عن طريق الصدفة أو الترتيب، فكان من الأحرى أن تتعامل حكومة الملقي بذكاء وتراعي تقدير الموقف لتقديم حلول استراتيجية، لأن المفترض أن تكون الحلول لدى المسؤولين والحكام لا في جيوب الشعوب.
إن ما أقدمت عليه حكومة الملقي بفرض قانون ضريبة جديدة على الدخول كان كفيلا باستدعاء غضب الشعب بعد أن طفح الكيل، خاصة في ظل اقتصاد قائم على المنح والتبرعات وبلد شبه منعدم الموارد.
إن تدخل العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين بتجميده لقانون ضريبة الدخل ومن قبله إقالة حكومة الملقي لم يسهم في وقف الاحتجاجات، الأكبر في الأردن منذ سنوات، بل زاد الأمر من تصريح مسؤولين حكوميين بأن الأردن سيطلب من صندوق النقد الدولي إرجاء تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية بهدف تقليص ديون الأردن طبقا لرؤية وشروط الصندوق.. إلى هنا لم ينتهي المشهد بعد، على أن تفصل الأيام القادمة وتضع حدا للأزمة.
أخيرا، أود التنويه إلى أنه من باب الصدفة ناقشت “جامعة الشرق الأوسط” الأردنية، الشهر الماضي، رسالة ماجستير مقدمة من النائب الأردني طارق سامي خوري، بعنوان ” دور صندوق النقد الدولي في التأثیر على القرارات السیاسیة والاقتصادیة للدولة 1989 – 2017 ( الأردن حالة دراسة )، وهدفت الدّراسة إلى بيان مضمون الأطروحات الفكریة والفلسفیة التي تنهض علیها سیاسات صندوق النقد الدولي، وتوضیح طبیعة البرامج التي یسهم صندوق النقد الدولي في تقدیمها، من حیث الغایات والأهداف، ورصد الآثار السیاسیة والاقتصادیة المترتبة على الدول التي تتعامل مع صندوق النقد الدولي خصوصا رصد الآثار السیاسیة والاقتصادیة الناجمة عن تعامل الأردن مع صندوق النقد الدولي. وخلصت الدراسة إلى أن الدول المتعاملة مع صندوق النقد الدولي ليست بالضرورة مستقلة في قراراها السياسي أو ينتعش اقتصادها.
إذن فلتبتعد الحكومات عن جيوب الشعوب، وتنفذ مشروعات تنموية تدر بعوائد على الدولة والشعب، بدلا من التسول على أعتاب صندوق النقد الدولي وأخواته، وما أسهله… وفي تجارب الدول التي ابتعدت عن هذا الصندوق وامتلكت قرارها عبرة لنا جميعا.. فهل من معتبر؟