آلت فرنسا علي نفسها إلا و أن تجعل يوم الرابع و العشرين من أبريل عام 2019 حدثا مهما للمجتمع الدولي الإنساني ، حين تقر فرنسا و تعلن رسميا للعالم الحر المتمدين أن ما حدث للأرمن في ذات اليوم الرابع و العشرين عام 1915م شكل جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمنع و العقاب علي جريمة الإبادة الجماعية التي صدرت في 9 ديسمبر عام 1948 م .
في ذلك اليوم المظلم في تاريخ الأرمن و البشرية ، لفظت المجازر حممها ، حين أصدر الظالم العثماني فرمانه الأغبر بإبادة الأرمن غدرا ، و إبعادهم غيلة ، و تعذيبهم جبرا ، و تهجيرهم خارج وطنهم قسرا ، و أطلق الحاكم العثماني و لم يكن حكما عادلا ، رصاصة البداية للخطة الممنهجة و المعدة من قبل لإبادة الأرمن الجماعية ، فاستغرق حصد و تصفية المفكرين الأرمن ، و أعلامهم من أهل الثقافة و الرأي و الإبداع ساعات بطيئة في عمر الزمن و كئيبة في نفوس البشر في مشهد كئيب ليوم عصيب في الخامس عشر من أبريل عام 1915م
و بالرغم من أن القتل عدته اتفاقية منع الإبادة المشار إليها أحد أنماط الإبادة الجماعية ، بيد أن الوحش الإبادي التركي الذي دشن قرن الإبادة الجماعية القرن الماضي ، آثر أن يسد علي أحفاده أتراك اليوم المنكرين للجريمة أية ثغرة يفلتون منها ، فارتكب كافة الأفعال الإبادية المختلفة التي نصت عليها المادة الثانية من الإتفاقية المشار إليها ، فصارت الدماء التي سالت من الضحايا الأرمن جراء الأفعال الإبادية التي ارتكبها الأتراك السلاطين مدادا أحمرا كتبت به الإتفاقية المشار إليها ، كما أشار لهذه الدماء الذكية الفقيه ” ليمكن ” في أطروحاته التي مهدت للإتفاقية .
ومهما طالت السنون ، ستظل ذاكرة التاريخ الإنساني ملطخة بدماء المليون و نصف الأرمني من الإطفال و النساء و العجائز و الرجال الشرفاء الذين قضوا بسنابك القتل و قيظ الصيف و زمهرير الشتاء في صحاري الشام ، فهذه الدماء سطرت تاريخ أرمينيا في تركيا ذاتها ، فشريعة الغاب لن تدوم طويلا ، و لن يستمر ضمير الإنسانية في سبات و غفوة و خدر
إن إصرار ذلك الشعب الأرمني الجبار علي إحياء قضيته في ضمير العالم المتحضر و التصدي لمحاولات تركيا التهوين من الجرائم المرتكبة تارة ، و الإنكار تارة أخري للقضية الأرمنية برمتها جعلت حكومات و برلمانات الدول فضلا عن منظمات و جمعيات و هيئات المجتمع المدني العالمية و الوطنية تقر بأن ما ارتكبته تركيا عام 1915و ما بعدها شكل جريمة إبادة جماعية في القانون الدولي ، و هل بعد الإقرار الرسمي بالإبادة الأرمينية من حليفي تركيا : ألمانيا و النمسا رسميا في مايو عام 2016م أي إنكار ؟
إن أحد المبادئ الراسخة في القانون الدولي ، الإعتراف بحق الضحايا و أسرهم في معرفة الحقيقة المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان ، و في المقابل يقع علي الدول التزام دولي بالتحري عن تلك الحقيقة و نشرها ، و قد فعلتها تركيا عام 1919 حين أسست المحكمة العسكرية في اسطنبول لمقاضاة القادة الأتراك الذين ارتكبوا الجرائم ، و لكن تتنصل تركيا الأردوجانية من كل هذه الحقائق و الوقائع القانونية و المادية ، و لا تجد من الجماعة الدولية إلا آذان موصدة تحفز الأحفاد و غيرهم علي ارتكاب ذات الجرائم إن آجلا أو عاجلا .
إن الخطوة التاريخية الإنسانية الفرنسية تؤكد أن الحقيقة ضرورية لاحترام كرامة الضحايا و مصلحة المجتمع الدولي بأسره فيضحي ذلك الإقرار صمام أمان لمنع تكرار هذه الجرائم مستقبلا فالإنكار لا يعني إلا الإستمرار ، و إذا كان من المحتمل أن يؤدي اقرار الحكومة التركية بالجرائم التي ارتكبت بحق الأرمن إلي تخفيف معانة الضحايا المغبونين في قبورهم ، فمن المؤكد أن من شأن ذلك أن يحقق الشفاء الروحي لأسر و محبي هؤلاء الضحايا الباقين علي قيد الحياة .
إن الإقرار بالذنب إعلاء للعدالة ، و لا يعد تصفية لحساب و لكن تهدئة للنفوس المكلومة من أسر الضحايا و تدعيم للتضامن الإنساني ، و إنهاء لثقافة الإفلات من العقاب ،و حفظ الجنس البشري ممن يذبحون و ينكرون ، و يمسح العار عن جبين الحكومات التركية الذي لايزال يعرق خجلا و فشلا .
إن الإقرار الفرنسي بجرائم الإبادة الجماعية ضد الإرمن واجب دولي ، ليس من الناحية القانونية وفقا لقواعد المسؤولية الدولية ، و لكن من الناحية الواقعية باعتبار أن فرنسا كانت أحد الدول الكبري المتحاربة في الحرب العالمية الأولي و كان السفراء و القناصل الفرنسيين شهود عدل وثقوا لدولتهم و العالم بأسره الجرم التركي المشهود .