في نفس هذا المكان قبل أربعة أشهر، كان مقالا لنا بعنوان “البشير والكأس المر”، كتبناه في أعقاب اندلاع أكبر احتجاجات شهدها السودان في عهد الرئيس عمر البشير، الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري شهير في عام 1989.
وجاءت الاحتجاجات التي تحولت إلى ثورة لتتخلص من نظام حكم جلب إلى السودان الحروب والفقر والعزلة الدولية بسبب رعونة سياساته وحساباته قصيرة النظر.
ففي الحادي عشر من أبريل الجاري كتب الجيش السوداني نهاية “نظام البشير” ليعلن سقوط حكمه وتعطيل الدستور وإقالة نوابه ومساعديه والحكومة التي تشكلت مؤخرا برئاسة والي ولاية الجزيرة محمد طاهر إيلا، وليتولى المجلس العسكري بقيادة وزير الدفاع السابق عوض بن عوف فترة انتقالية لمدة عامين، وهو ما رفضه السودانيون رفضا قاطعا، وليواصلوا اعتصامهم أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في العاصمة “الخرطوم”؛ ليضطر “بن عوف” ومعه نائبه رئيس الأركان السابق كمال عبد الرؤوف الماحي لمغادرة موقعهما من رئاسة المجلس العسكري الحاكم للبلاد، نزولا على رغبة الثوار، ليتولى المفتش العام للقوات المسلحة السودانية الفريق أول الركن عبد الفتاح برهان رئاسة المجلس العسكري الحاكم للبلاد خلال فترة انتقالية لمدة عام واحد.
لقد عرضنا في مقال ديسمبر الماضي عدة سيناريوهات للمشهد السوداني وتحقق أحدهم، وكان الأبعد احتمالا، إلا أنه تحقق، فكان “انقلاب قصر” على “البشير” الذي لم يتوقع أبدا انحياز جيشه إلى “الشعب المطحون” ليقرر عزله في خطوة فاجئت الجميع.
والمتابع للأحداث وردود فعل “البشير” الذي يصطبغ حكمه بالطابع الديني الإسلامي لم يكن يتوقع أن هذا الحاكم قد حرض شرطته إلى قتل الشعب للحفاظ على الأمن الذي وصفه بأنه سلعة غالية، وراح يبرر مستشهدا بالقرآن الكريم بقوله تعالى “ولكم في القصاص حياة يا أولي الأباب” مفسرا “القصاص” بأنه القتل والإعدام، حتى يستتب حكمه.
وفي مفاجأة مذهلة كشفها الصحفي السوداني عثمان ميرغني أن “البشير” قد أصدر تعليمات إلى الجيش بقتل حوالي 30% من الشعب السوداني طبقا لما يقر به المذهب المالكي، متعللا بأن السودان تتبع المذهب المالكي، بل وأن المتشددين من المالكية يجيزون قتل 50% من الشعب حفاظا على الحكم واستقرار أمن البلاد، وهو الأمر الذي دفع الجيش بالتعجيل للتخلص من “البشير” ونظامه، فكان صبيحة الحادي عشر من أبريل الجاري إعلان التخلص من “البشير” ووضعه تحت الإقامة الجبرية.
وبإعلان سقوط “البشير” تبدأ الجرعة الأولى ليشرب “البشير” من نفس الكأس الذي تجرعه حكام سبقوه منذ ثمانية أعوام في كل من مصر وليبيا واليمن وتونس، فقد كان “البشير” أول المحرضين على نظام حسني مبارك حين اندلعت أحداث 25 يناير 2011 وكذلك في ليبيا على القائد معمر القذافي، فكان من النافخين في كير هذه الأحداث.
واليوم يمر “البشير” بنفس السيناريو بعد أن تم القبض عليه، ويتسائل الشارع السوداني “أين البشير؟”، حيث تضاربت الأنباء حول مكان وجوده، هل هو في بيت الضيافة التابع للرئاسة، أم في سجن كوبر، هذا السجن الأشهر شديد الحراسة والذي شهد الكثير من سجن رموز المعارضة والإعدامات لمئات المعارضين للبشير طيلة 30 عاما لحكمه، ليتم تأكيد أن “البشير” مقبوض عليه وتحت حراسة مشددة في سجن كوبر في الخرطوم.
ومن أخطر المشاهد (إن ثبت صحتها) التي أذهلت من تصور أن “البشير” يترأس حكما إسلاميا صافيا ضبط النيابة العامة السودانية مبالغ هائلة من الأموال في مقر الرئيس البشير في العاصمة السودانية “الخرطوم”، حيث تم ضبط مبلغ 6 ملايين يورو، و351 ألف دولار أمريكي، و5 مليارات جنيه سوداني، في وقت يعاني فيه شعبه أزمات اقتصادية طاحنة، وهذا ما تم ضبطه، فما بالنا بالأموال غير المعلومة؟!!
ومع ضبط هذه الأموال يواجه “البشير” تهمة غسيل الأموال ومنتظر مثوله للتحقيق لمعرفة طبيعة وكيفية حصوله على هذه الأموال.
الآن سقط “البشير” وفق أحد السيناريوهات، ولكن السؤال الأهم والذي لم تتوقف دوائر البحث عنه هو “ما مصير البشير؟؟” بعد سقوطه، خاصة وأنه الزعيم العربي الوحيد المطلوب خارجيا للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية في “لاهاي” لارتكابه جرائم حرب في كل من “دارفور” و”كردفان”.
ففي دارفور اندلعت الحرب في فبراير عام 2003، حيث قاتل الجيش السوداني كل من “حركة تحرير السودان” و”حركة العدل والمساواة” بسبب اضطهاد الحكومة السودانية لغير العرب من سكان “دارفور” وقيامها بحملة تطهير عرقي خلفت أكثر من 300 ألف قتيل منذ عام 2003، وبسبب هذه الحملة اتهمت المحكمة الجنائية الدولية عمر البشير وعددا من قيادات نظامه بارتكاب جرائم “إبادة جماعية” وجرائم “ضد الإنسانية” و”جرائم حرب”.
أيضا، ومع اندلاع ما عرف بثورات “الربيع العربي” في عام 2011 شهدت ولاية كردفان احتجاجات ضد “البشير”، إلا أنه نجح في وأدها.
فقد وجهت “منظمة العفو الدولية” في الرابع من أغسطس لعام 2015اتهامات إلى الجيش السوداني بارتكاب تجاوزات تصل إلى جرائم حرب في منطقة النزاع في ولاية جنوب كردفان (جنوب الخرطوم)، فبحسب الاتهام قام الجيش بقصف المدنيين واستهداف مراكز طبية، فمنذ العام 2011 تواجه الحكومة السودانية تمردا مسلحا من الحركة الشعبية (شمال السودان) في ولايتي “جنوب كردفان” “والنيل الأزرق”، حيث أمطرت قوات الحكومة السودانية المدنيين، دون تمييز، كذلك القضاء على الثروة الحيوانية، مما خلف أزمة إنسانية كبيرة.
إذن “البشير” مطلوب داخليا وخارجيا حيث سيواجه عدة اتهامات داخلية بحتة أولها غسيل الأموال على خلفية المبالغ النقدية “الكبيرة” التي تم ضبطها مؤخرا في مقر إقامته بالخرطوم، كذلك الاتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية في كل من ولايتي دارفور (غرب السودان) وجنوب كردفان (جنوب الحرطوم) وهي اتهامات إذا ما ثبتت بحق “البشير” ونظامه يحاسبه عليها في الداخل القضاء السوداني، ومن الممكن موافقة القضاء السوداني على تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية لمحاكمته أمامها.
ولكن هناك حديث عن احتمالية مغادرة “البشير” خارج السودان ليستقر به الحال في أوغندا أو دولة الإمارات العربية المتحدة، بعد سقوطه بأيام قليلة وقبل ضبط الأموال بمقر إقامته، وكان من المفترض أن يتم ذلك وفق تسوية في الداخل السوداني مع القائمين على إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، وهذه الخطوة أعتقد كان يلزمها تصرف مبكر، ولكن الآن المشهد تغير تماما، وأصبح “البشير” في مأزق صعب، وأي طريق للخروج فليس فيه النجاة الكاملة.
الأيام القادمة ستحدد ملامح المصير الذي ينتظر “البشير” وأي كان فلن يكن ما يتمناه “البشير”، وستكون محاكمته هي بداية هذا المصير، بعد أن أدرك الجميع أن الجيش السوداني أكد ولائه لشعبه، وأن من قياداته من كان ينتظر وقت الحسم لإزاحة الطاغية وكشفه أمام شعبه والعالم أجمع.