لم يكن مناخ الأحداث السياسية بين أنقرة وواشنطن ، بمثل أجواء البلدين الصيفية في هذه الفترة من السنة، وإنما يبدو انها أجواء عاصفة بإمتياز،ما بعد افتعال أزمة قبرص والتنقيب التركي عن النفط والغاز, لتثيرأزمة منظومة صواريخ إس 400 حرب تصريحات جديدة وتضيف المزيد من أسباب الإشتعال للتوتر الكامن بين واشنطن وأنقرة منذ سنوات، توتر يقود العلاقات بين البلدين إلى أدنى مستوى لها منذ الحرب القبرصية في ستينيات القرن . ويقول الخبراء إن إبعاد تركيا عن طائرات إف 35 سيتسبب في أكبر صدع وخلاف أمني دفاعي من الطراز الرفيع بين واشنطن وأنقرة في التاريخ الحديث.
ومن هنا ننطلق لطرح أسئلة عدة حول إذا كان شراء منظومة إس 400 الروسية يمكن أن يعيد تعريف دور تركيا الجيوستراتيجي، ولماذا تفرط تركيا في حقها السيادي في نشر أي منظومة دفاع جوي تختارها ؟ وهل ستحافظ على بنية عسكرية مشتركة مع حلف الناتو مع ترك جزء كبيرمن أجهزتها الجوية العسكرية دون استخدام، أم ستنسحب من بنية الناتو تماما؟ وهل الخيارالأخير من شأنه أن يتسبب في كارثة لحلف الناتو، أداة الهيمنة العسكرية الغربية في الشرق الأوسط وأوروبا. فهل تهدف امريكا الى إضعافه لسبب ما .وسنبدا الخطوط العريضة لسباق تسلح بالقوة ؟.
ومع ترتيب الخط الزمني والعوامل الأمنية والسياسية والاقتصادية يراوغ البعض بالقول أن تركيا تفقد دورها الرئيسي في إستراتيجية الأمن الأميركية كحاجز ضد توسع موازين القوى في الشرق الأوسط، أما في المشهد التركي، فإن أنقرة أيقنت مرة بعد أخرى أنها لم يعد بإمكانها الإعتماد على المظلة الأمنية الأميركية فهي ليست حليف مثالي أو حقيقي، والواقع أنه لم يكن بإمكانها ذلك في أي وقت، فإن أمريكا لم تكن يوما ضامنا للمصالح الأمنية التركية، و أنقرة ذاقت فقط في علاقتها مع واشنطن على مدار تاريخها مرارة الخذلان عاما بعد عام وأزمة تلو أزمة .وعلى تركيا رسم محطّة جديدة على خارطة الاصطفافات الإقليمية والدولية في هذه المرحلة الحرجة من الصراع.
من جهة أخرى ظلّت أنقرة تناورخلال مدة طويلة تجاه حليفها الأطلسي مع العديد من الخلافات بصورة مضطردة،. بل أن تركيا تلعب من جديد لعبتها المعتادة التي دأبت عليها على مدار نصف قرن، فلم يعد من الممكن بالنسبة لأنقرة أن تبقي نفسها رهينة بشكل كامل لمنظومة التسليح الغربية، لكن المناورات لا تأتي بلا عواقب، لذلك واشنطن اختارت معاقبة تركيا بالطريقة التي اعتادتها أيضا وهي المزيد من الحظر، وفي هذه المرة يبدو أن واشنطن تحاول حرمان تركيا من الحصول على الجيل الأحدث من المقاتلات الأميركية الأكثر تطورا، رغم أن أنقرة تعد شريكا رئيسيا في برنامج تطويرالمقاتلة الأحدث منذ تدشينها قبل قرابة 20 عاما، ولديها خطة لاقتناء مئة وحدة من المقاتلة.
عقوبات واشنطن التي تلوح بها لن تقنع تركيا بالتراجع هذه المرة , اذ سيتوقف تدريب الطيارين الأتراك في امريكا على طائرات الشبح إف-35، وستلغى الاتفاقات مع الشركات التركية المتعاقد معها لتصنيع أجزاء الطائرة الحربية ، بموجب تشريع عام 2017 الذي يدعو إلى فرض عقوبات على الدول التي تشتري معدات عسكرية من روسيا.كذلك استبعاد تركيا من بعض وحدات الناتو المهمة بذريعة أمن المعلومات، إلى جانب إلغاء التصاريح الأمنية للأفراد العسكريين الأتراك الذين يعملون على أنظمة إس 400. أما التكلفة المباشرة للعقوبات الأمريكية المتوقعة على الصناعة التركية فقد تصل إلى 10 مليارات دولار ، وقد تعرقل الولايات المتحدة جهود تصدير الأنظمة الحالية والمستقبلية لتركيا، وربما ستضغط أنقرة على ترامب بتنفيذ تعهداته بتسليم الطائرات الامريكية ، ناهيك عن أوراق الضغط الأخرى التي تمتلكها تركيا وأقلها المطالبة برد الأموال التي استثمرتها في صناعة الطائرة الحربية ، وأعلاها منع الوصول الأميركي إلى قاعدة أنجرليك الجوية.
وفي الطرف الاخر من العقوبات , وسط مستنقع الشرق الأوسط الجيوسياسي، ترى انقرة ان التهديدات الكبرى لأمنها تأتي بشكل رئيسي من جنوب المحيط التركي مع وجود أزمة ثقة بين إيران وروسيا وتركيا نتيجة تاريخ الصراع بينهم. فقد دخلت الدول الثلاث في حروب مدمرة مع بعضها البعض وتنافست على السلطة في الإقليم . لكن في الوقت نفسه، لديهن مصالح مشتركة، بما في ذلك الناحيتان العسكرية والاقتصادية.
يبدو أن تركيا تحاول ان تكون الرابح الأكبر، فهي تراهن بصفتها دولة قائدة مستعدة للوقوف في وجه السعودية، التي أدت علاقتها الوثيقة مع إسرائيل ودورها القيادي في الحرب الكارثية في اليمن إلى تلطيخ سمعتها. ناهيك عن ان أنقرة تلعب على الجانبين في الصراع السوري، لتقوية موقفها في المفاوضات المستقبلية. اذ يتوقف نجاح سياسة الولايات المتحدة في سوريا جزئيا على تركيا. ويتوافق هذا مع الأهداف الإيرانية والروسية. لكن أنقرة أصبحت في الوقت الراهن أكثر عداء للغرب من أي وقت مضى في العصر الحديث. وأصبح حلف إيران وروسيا الآن مناسب لها أكثر من حلف شمال الأطلسي.
والأرجح أن إيران الأن في موقف أفضل من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي من حيث القدرة على تهدئة المخاوف التركية بشأن مستقبل الأكراد. رغم ان أردوغان يعمل مع هيئة تحرير الشام، التي يعتبرها الأتراك مدعومة من قِبل أميركا والسعودية. كما ان أنقرة لا تزال تشعر بالخذلان الأمريكي بعد انحياز أمريكا الضمني ضدها وترك ملف العلاقات التركية اليونانية للمعالجة الأوروبية المنحازة ضد أنقرة، خاصة مع تراجع الدعم الأمريكي لملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ورضوخ واشنطن للموقف الأوروبي المنحاز ضد تركياعلى أساس هوياتي في المقام الأول. كذلك لا نغفل إن المخازن العسكرية الأميركية لم تكن مفتوحة أمام أنقرة بالشكل الذي تمنته وفي أكثر من مناسبة امتنعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون عن تلبية طلبات أنقرة من الأسلحة.
والأهم في العرف السياسي ان المال الخليجي ليس ذا نفع كبير في إيقاف زخم المشهد الجيوسياسي الذي يتغير بسرعة، والذي تبرز فيه إيران وروسيا وتركيا معا ككتلة متماسكة. تحالف هذه الدول الثلاث معا -والمتأصل في المصالح المشتركة لهم يمكن أن يتعدى هذه المسألة، ويؤدي إلى تغيير أكثر جذرية في تحالف القوى في الإقليم، وسيكون له آثار بعيدة المدى على الولايات المتحدة.قد لا تعي مسارها.
وبناء على ذلك، ينبغي أن تفهم واشنطن الأهداف الإقليمية الرئيسية لتركيا. و ربما تحتاج أنقرة الآن من ترامب الى تصريحات أكثر تصالحية , وربما تحتاج واشنطن الى رسائل تُؤمّن المصالح الأميركية في المنطقة.
وبغض النظر عما يمكن أن تسفر عنه الأزمة فإن الوصول إلى هذا المستوى من العلاقات والتهديدات باتخاذ إجراءات أكثر قسوة هي علامة على الانحدار المستمر في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، في الوقت الذي تشق فيه أنقرة طريقها بعيدة عن المظلة الأمريكية في حين تراجع واشنطن بشكل فعلي أسس تحالف دام لسبعة عقود ويبدو اليوم أنه في طريقه إلى الانهيار بشكل بطيء.لذلك على تركيا ان لا تضع بيضها في سلة معسكر واحد فهل تتعلم ؟
*كاتبة المقال: إعلامية اردنية