أمي، هذه هي المرة الأولى التي يثقل عليَّ فيها قلمي، ويتلعثم لساني، وتضطرب مشاعري، فلا أراني صحفيًّا نابهًا ولا خطيبًا مفوهًا،كي أتخير مفردات الكلام، أو أصيغ كلمات حسنةالبيان فائقة الفصاحة، ولكن أراني طفلاً صغيرًا ضلَّ الطريق، بعد أن وجد يده قد انفصلت عن يد أمه بين زحام البشر، فلا هو عاد إلى بيته، ولاهو أكمل طريقه في دروب الحياة؛ ليقف مكانه يبكي في انتظار عودة أمه.
هل أرثيكِ يا أمي وأعدد خصالك الطيبة وأحكي للناس عن واحدة من نماذج الأمومة التي قلما جاد بها هذا الزمان، أم أعزي نفسي وأواسيها حتى ألقاكِ في دار الحق، أم أتحدث معكِ كما كنا نتحدث في أوقات الصباح والمساء، وقلبكِ الطيب يبعث بكلام لا تفهم إشاراته سوى العيون والقلوب الطيبة.
من أين أبدأ؟ هل أبدأ منذ تعرفك وإدراكك؟ من أين آتي بذاكرتي الجنينية؟ لا تكفيني ألف صحيفة لأحكي مآثرك وقصصكِ الطويلة التي يعرفها القاصي والداني من كل العائلة والأقارب والجيران. ولو تحدثت، ما توقفت عن رحلة لم يكن عنوانها وسطورها سوى التضحيات من أجل أسرتك التي ضحيت لأجلها بكل ما تملكين؛ ليملكوا هم كل ما تملكين.
فقد ضحيتِ بأملاكك وثروتك لتشاركي أبي المسؤولية، وتتحملي معه أعباء الحياة، حتى تربينا وتعلمنا أنا وأخوتي،وحتى تزوجنا جميعًا وأنجبنا لك الأحفاد، ولآخر يوم في عمرك، عشنا جميعًا في خيرك وببركتك التي مازالت تحل علينا حتى الآن.
لو ظللت أحكي وأكتب ما أنهيت قصة كفاحكِ معنا يا أمي ومع أبي الذي سبق رحيلك منذ واحد وعشرين عامًا، صبرتِ خلالها على رحيله حتى أصابكِ المرض من بعده، ليشتد عليكِ في السنوات الأخيرة، لتصبري وتحتسبي عند ربك الذي اختاركِ دائمًا للابتلاء والشقاء؛ ربما لحكمة لم يأتِ الوقت لنعلمها.
البدايات لرحلة حياتك وعطائك كثيرة يا أمي، وفي معرض رثائكِ أنا لا أرثيك ولا أواسي نفسي لأصبرها؛ ولكني مازلت أتحدث معكِ ومازلت أسمع صوتكِ الخافت الدافئ الذي ضعفت أحباله في سنواتك الأخيرة.
سأبدأ من اللقاء الأخير والعجيب،والذي لم أعرف تفسيره إلا بعد وفاتك، ففي آخر مرة جئت لأسلم عليك وأقبل يديك ورأسك كما تعودت في الفترة الأخيرة، وجدتكِ نائمة، فجلست مع شقيقتي، وبعد دقائق دخلتِ علينا مسرعة دون أن تتسندي على العصا أو الحائط أو الكراسي، ووجدت وجهكِ ناصع البياض بشكل زائد، والنور يشع منه وتعلوه ابتسامة صافية، وانتفضت من مكاني لتجلسي على مقعدك الذي كنت أشغله، وسألت نفسي (ما هذا النور الذي كسا وجه أمي.. وما سر هذه الابتسامة الصافية الصامتة؟!)، والله خفت أن أصارحكِ يا أمي بأسئلتي حتى لا تظني أنني أحسدكِ، فقد كنت سعيدًا بهذه الابتسامة وهذا النور الذي كسا وجهك الكريم، ظنًّا مني بتحسن صحتك، وأنكِ ستقضين على ما تبقى من المرض.
ولكن لم أعلم أنها كانت لحظات وداعكِ للدنيا ولمحبينك فيها، فقد كانت الإشارات التي لا نفهمها إلا بعد الفراق.
أبدأ لأتذكر الأيام التي شرفتيني فيها في بيتي، وقضينا أياما جلسنا وتناولنا سويًّا الإفطار والغذاء والعشاء وأشرف على تناولك الأدوية، وحين حضر أولادي من رحلة المصيف أكملت معنا بعض الأيام لتحل علينا جميعًا سعادتنا بوجودكِ معنا إلى أن غادرتِ عائدة إلى منزلك الذي تتعلق به روحك وتتحسن فيه صحتك.
ومن الشواهد الغريبة التي تحيرت فيها أنا وزوجتي حين وقفت في شرفة شقتنا، للمرة الأولى، ووقفت لأكثر من نصف ساعة تتأملين المارة وتنظرين إلى البنايات المجاورة، وخرجت أنا من شرفتي لمرتين وسألت زوجتي عن السر لتبدي هي الأخرى اندهاشها وتؤكد معي قائلة لي “إنها المرة الأولى التي تخرج فيها ماما إلى الشرفة وتقف كل هذه المدة!” هل كانت شواهد الأيام الأخيرة هي علامات الوداع؟هل كنت تشعرين يا أمي أنكِ راحلة؟!.. هل كان صمتكِ ونظراتكِ لأسفل وإشارات يديكِ تحمل علامات الفراق؟!
غادرت إلى القاهرة، وبعدها بأيام تحدثنا في الهاتف، وكعادتك لا تحبين الكلام الكثير في الهاتف، وكنا قد اتفقنا على قضاء إجازة نصف العام الدراسي في شقتي الجديدة في مدينة الشيخ زايد، وأعددت العدة لذلك، لكي نسعد بوجودكِ معنا، ولكن سبقنا القدر، ونفذت إرادة الله، ليختاركِ إلى جواره في دار الحق.
يأتيني خبر رحيلك فجأة في ساعة غير متوقعة، محاولاً معهم على الهاتف تدبير دخولكِ مستشفى الطوارئ لإنقاذ روحكِ البريئة، ولكن كان القدر أسرع، وفاضت روحكِ إلى بارئها، وهل سنعزُ روحك على من خلقها، فلكل أجل كتاب، و”إنا لله وإنا إليه راجعون”.
اتصالات متبادلة بيني وبين شقيقتي، وفي الاتصال قبل الأخير فتحت لك مكبر صوت الهاتف لتسمعي صوتي وأنا أتوسل إليك أن تنتظريني، فكنت بدأت التحرك من مدينة نصر، قاطعًا عملي، في طريق العودة إلى بلدتنا بيلا، وفي الاتصال الأخير “البقاء لله”؛ لأعلم فيما بعد أنك رحلت بمجرد سماعكِ إلى صوتي.. فهل حقًّا كما يقولون أن الروح لا تصعد إلا برؤية أو سماع صوت من تحب؟!
تم كل شئ على عجل، وجئت إلى بلدتنا لأجد كل شئ تم ترتيبه، دقائق وتغادرين، كنت مشتاقًا أن أجلس معكي الليلة الأخيرة وحدنا، أكلمكِ وأتحسسك في آخر لقاء بيننا، كنت مشتاقا أن أقبل قدميكِ وأرتمي بين أحضانك في الليلة الأخيرة، لكنهم قرروا كل شئ، وما كان إلا أن قبلت رأسكِ وحضنتكِ،وهم يبعدوني عنكِ قبل الخروج الأخير من دارك في الدنيا إلى دار الآخرة.
لم أعرف معنى عبارة “قدماي لا تقدر على حملي” إلا عندما أتيت وطرقت باب بيتكِ يا أمي، وقتها لم أدر بالعالم من حولي، وسقطت منتظرًا السماح بالإطلالة الأخيرة قبل وصولك إلى موعد الحق.
وهناك، لم أستطع تنفيذ وصيتك كاملة، فلم أجلس معكِ قدر ذبح شاة وسلخها وتوزيعها حتى تنتهي من الحساب، فلم يتركوني أجلس وحدي معكِ، أدعو لك وأقرأ القرآن كما وصيتيني، فما جلسته لا يتعدى 20 دقيقة، صدقيني لم أكن خائفًا من الجلوس في المقابر ليلاً، فكنت أشعر بك وبروحك تملأ عليا المكان، لكنهم من منعوني البقاء وحدي.
عدت إليكِ باكرًا صباح اليوم التالي يا أمي، وجلست معك قرابة الساعتين، قرأت فيهما جزأين من القرآن الكريم، مقررًا المواصلةلأنتهي من ختمه على روحكِ الطاهرة بإذن الله.
وبعد كل هذا أسأل نفسي “هل ماتت أمي؟!”، صدقيني، عاجز عن الإجابة، فمازالت روحكِ تملأ المكان، مازلت أسمعك وأراك في كل مكان رأيتك فيه، مازالت روحكِ تسكن روحي، مازلت أشم رائحتك في كل ركن من أركان بيتك.
في سجادة صلاتك التي أهدتني شقيقتي إياها، ورغم غسلها جيدًا، ومع أول سجود عليها شممت رائحتكِ يا أمي.
أمي.. إعلمي أنني حتى اللحظة مازال حزني مكتومًا ودموعي حبيسة وقلبي موجوع، مازلت مشتاقًا إلى أحضانك التي فيها الحصن والأمان، فكانت أقرب وأبعد مكان في هذا العالم، فيه المأوى لحظات الحزن والفرح والوجع.
عذرًا يا أمي أنني لم أكن بليغًا أو قادرًا على ترتيب كلامي معكِ أو عنكِ، فأنتِ تستحقين كل البلاغة وكل الإفصاح وكل البوح، إلا أن الحدث غلبني وشتَّت مني الكلام، ولكن مؤكد أنني سأكتب عنكِ مرات ومرات.
أكتب لأنكِ الوحيدة التي تستحقين الكتابة، فبقدر إخلاصكِ بقدر ما يجب أن يكون الوفاء، فقد رحلتِ ومعكِ خزينة أسراري، فكنتِ الوحيدة طيلة 43 عامًا، هي عمري، من تتكتم أسراري، فإن بُحْتُ بشئ لكِ كنت واثقًا من أنه سيبقى “سرًّا في بئر”، وقد كان. قلبي فيه الكثير من الكلام وحديث لن ينتهي، فكل الذكريات الجميلة كانت معكِ، وكل شئ جميل كان عندكِ، وكل شئ طيب كان منكِ.
لا أقول وداعًا، ولكن إلى اللقاء يا أمي، إلى أن نلتقي في عالم الحق والحياة الأبدية.