مع تواجد الأزمة العالمية التى نجمت عن جائحة الكرونا ، وما أكدته من حتمية تغيير العقول ، والتصرفات البشرية كى تتواكب مع صورة العالم فى ثوبها الجديد ،ومع القول بأهمية تفعيل المنظومة الإلكترونية ، والإعتماد شبه الكلى عليها فى تيسير كافة أعمالنا ، وحياتنا واحتياجاتنا اليومية.
بدأت الدعوة من قبل الطلاب ،والطالبات ،وذويهم بإلغاء الإختبارات ، والإكتفاء بالأبحاث العلمية كطريقة للتقويم ،والتقييم ، أوعقد اختبارات إلكترونية بإستخدام البرامج التكنولوجية المُعدة لهذا الغرض.
ولسنا هنا من أجل تفضيل طريقة للتقييم على أخرى ، لقناعة كاتبة هذه السطور أن عمليات التقييم والتقويم تخضع للسياق الثقافى ،والمجتمعى الذى توجد فيه كل دولة . إلا أننا بحاجة ماسة إلى توضيح لماذا فكرة الإختبارات أو الإمتحانات التى تأخذ صوراً متعددة من بينها وليس كلها الإختبار التحريرى آخر العام ؟
بادئ ذى بدء ما معنى الإمتحان ؟ عندما تكون فاعل فأنت مُمتحِن ( ماتح) ، وعندما تكون مفعول بك فأنت مُمتحَن ( ممتوح) ، والإسم هو امتحان ، والفعل متح ،والمعنى الأصلى للفعل متح هو استخراج الشئ أو نزعه ، وبمعنى آخر الحصول على الشئ.
وعند استعمال كلمة الإمتحان فى السياق التعليمى فإنها تعنى خوض تجربة قوية . وبهذا المعنى لا يعنى الإمتحان فى سياق التعليم الإبتلاء أو المحنة كما يعتقد البعض ، بل هو اختبار قدرات الفرد التى اكتسبها فى مرحلة تعليمية محددة.
ويطرأ السؤال الفلسفى على الذهن : أليس المرء فى حالة امتحان منذ ميلاده حتى مماته ؟ ألسنا فى هذا العالم الإنسانى من أجل تأدية رسائل محددة ، واختبار الخالق مدى قدرتنا على أداء الرسالة كما ينبغى أم لا ؟
ألم يبشرنا الله بجنة عدن، والسعادة بعد الصبر على الشدائد ،والإبتلاءات، والكبد الذى خُلق الإنسان فيه.
وذلك فى قوله تعالى ” وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ” ( البقرة ، الآية 155 ) ، والجزاء كما وعد الرحمن فى قوله ” جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ” ( البينة ، الآية 8).
ولأن الله عز وجل خلق الإنسان لتحمل الصعاب ،والشدائد لما أودع فيه من حكمة، وعقل ،وبصيرة ، ومقدرة على السيطرة على سائر مخلوقاته ، وذلك فى قوله الحكيم ” لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ”(البلد ، الآية 4).
فقد خلق الرحمن الرحيم الإنسان بعد أن قَومه ،وعَدله ،وجعله فى هيئة لتحمل الصعاب ، وخوض كافة الإختبارات الدنيوية ،وذلك فى قول البارى ” يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ” ( الانفطار ، الآيات 6 ، 7 ، 8 ) . إذن ما الحكمة من الإمتحانات والإختبارات ؟
من الأهمية وضع بعض الحقائق المؤكدة عن الإمتحانات :
الحقيقة الأولى : الإمتحان أداة من أدوات تقييم الأداء الفردى والمؤسسى. الحقيقة الثانية : يمكن الإستعاضة عن الإمتحان بمسميات أخرى تحقق نفس الهدف. الحقيقة الثالثة : يجعل الإمتحان المرء فى حالة تركيز شديدة لإجتيازه. الحقيقة الرابعة: يؤثر على الناحية النفسية والإجتماعية للفرد والمجتمع. الحقيقة الخامسة : ينقل الإمتحان المرء من مرحلة إلى أخرى أو الثبات على نفس المرحلة. الحقيقة السادسة : يعد الإمتحان أحد أدوات الحراك الإجتماعى الصاعد أو الهابط. الحقيقة السابعة : ليس كل واضعى الإمتحانات لهم أهداف أيديولوجية أو تعجيز أو ترهيب الأفراد.
وفى المقابل توجد بعض الأفكار،والمعتقدات المغلوطة أو الأوهام عن الامتحانات التى تمثل سراب لا يمكن الإعتقاد فيها من مثل:
السراب الأول: توضع الإمتحانات للسيطرة والهيمنة على الأفراد. السراب الثانى: واضعى الإمتحانات لديهم ميول عدوانية. السراب الثالث: الإمتحانات محنة وابتلاء ويجب تجاوزه. السراب الرابع: الإمتحانات الحقيقية هى التحريرية أو الكتابية فقط. السراب الخامس: الإمتحانات الأداة الوحيدة التى تعبر عن أداء الفرد ،وقدراته الحقيقية. السراب السادس: لا يمكن إحداث الضبط الاجتماعى بدون الإمتحانات النهائية.
هل يمكن وضع آليات للتقييم ليست الاختبارات أحدها؟ الإجابة ومن واقع الخبرة العملية نعم يمكن الإستغناء عن الإختبارات النهائية، والإستعانة بطرق جاذبة ومريحة للدارس أو المتعلم ، وقبل الخوض فى تلك الطرق المحببة والمفضلة.
للدارسين علينا ذكر أسباب لماذا يكره أغلب الدارسين والمتعلمين الاختبارات ؟
السبب الأول: تركيز الإختبارات على موضوعات تتطلب الحفظ الشديد ،والتكرار المستمر للمعلومات.
السبب الثانى : الضغط الذى يسببه الإختبار للدارس ، ويغير حالته المزاجية ،والإنفعالية مما قد يتسبب له فى أمراض عضوية كثيرة تتعلق بالجهاز الهضمى ، والعصبى ، والتنفسى. السبب الثالث : تبَخر كل ما يدرسه المتعلم بمجرد الإنتهاء من الإختبار النهائى. السبب الرابع : كثير من الدارسين لا يبرزون قدراتهم الحقيقية عندما يكونوا تحت ضغط الإمتحان. السبب الخامس : عمليات تقييم الكثير من الإختبارات تخضع لآراء المصحح أو واضع الإختبار أو مفتاح الإجابة الذى قد يتضمن إجابة واحدة رغم تنوع الأفكار،والأذهان،والآراء . السبب السادس : الإختبارات التحريرية لا تقيس أداء الفرد المهارى،والحركى ،وقدراته الفنية ،والعلميةوالعملية. السبب السابع : المعتقدات الموروثة لدى بعض أولياء الأمور بشأن الإختبارات على أنها المصير ، والمستقبل ، وأن المتعلم إذا رسب فى الامتحان فهذا دليل على فشله ، وعدم فلاحه فى التعليم . السبب الثامن : بعض واضعى،ومقيمى الإختبارات يمارسون هيمنة ،وضغط على الممتحنين ، ويفتقرون إلى النزاهة ،والموضوعية ، ويشعرون بأن وضع الإمتحان أمر به قوة ،وسلطة ،وفرصة كبيرة للتجبر،والهيمنة على الدارسين . السبب التاسع : الأموال الضخمة التى تنفق على الإختبارات يمكن توجيهها فى بناء قدرات الدارسين خلال عمليات الإعداد داخل مؤسسات التعليم من معامل،ومكتبات،وقاعات نقاش ،وقاعات عروض ، وقاعات للإبداع، وملاعب ، وأماكن للرسم ، وأماكن للورش الفنية ، والصناعية ، والزراعية وغيرها.
وفقاً لهذا قد تكون تلك الأسباب ذريعة للبحث عن آليات أقوى للتقييم ليس الإمتحان بمعناه التقليدى أحدها.
ومن ثم يمكن الإستعانة بالآليات التالية :
الآلية الأولى : الأبحاث العلمية فى موضوعات التخصص حسب المنهج المقرر . الآلية الثانية : العروض التقديمية التى تعكس مهارات ،وقدرات الدارسين ،وإمكاناتهم العلمية . الآلية الثالثة : التجارب المعملية المشتركة أو الصناعية أو الزراعية أو التسويقية . الآلية الرابعة : الزيارات الميدانية ،وكتابة التقارير العلمية بشأنها . الآلية الخامسة : كتابة المقالات العلمية ،والقدرة على نشرها فى دوريات متخصصة محلية ،وعالمية . الآلية السادسة : جلسات العصف الذهنى داخل قاعات مخصصة لذلك . الآلية السابعة : المشروعات العلمية التى تحقق النفع للدارسين وفقاً للمناهج المقررة ، وتوظيفها مع السياق المعاش . الآلية الثامنة : الأنشطة الخدمية ،والتطوعية لخدمة المجتمع، وتنمية البيئة . الآلية التاسعة : الإختبار المنزلى Take home exam للإجابة عن بعض الأسئلة المحددة التى تتطلب التركيز على الجانب المعرفى ، والبحث فى المراجع المتنوعة ، وإرسال الإختبار فى موعد ،وتاريخ محدد وغيرها من الآليات المتنوعة التى تقيس الأداء الحقيقى للفرد، وليس فقط الأداء الكتابى أو المعرفى ، وإنما مهارات متعددة مثل التواصل ، وفن التعامل ، وفن إدارة الأزمات ،والمخاطر ، والقدرة على التوقع ،والتنبؤ للمخاطر القادمة ، والتفكير الناقد ،والإبداعى ،وغيرها من مهارات المستقبل التى بحاجة إلى اكتسبها من خلال الخبرات ،والتجارب المتنوعة ،والتى لا يمكن الإختبار أو الإمتحان بشكله الحالى الوفاء بإكتشافها ومن ثم تنميتها.
* كاتبة المقال: أستاذة أصول التربية في كلية التربية بجامعة عين شمس.