عشر سنوات كاملة مرت على إعلان إثيوبيا نيتها بناء “سد النهضة” بهدف توليد الطاقة الكهربائية التي تساهم في إحداث التنمية الإثيوبية، والتي تدعي إثيوبيا أن مصر كانت تقف لها عقبة كبرى في تنفيذ هذا الحلم الذي يراود الإثيوبيين منذ الخمسينيات من القرن الماضي.
عشر سنوات مرت وواصلت إثيوبيا تعنتها والمضي قدما (بشكل منفرد) في تنفيذ “سد النهضة” دون الرجوع إلى دولتي المصب (مصر والسودان)، حيث الحقوق والأضرار المترتبة فنيا وقانونا على كل من الدولتين.. وبالرغم من ذلك قبلتا مصر والسودان المفاوضات بشأن الطرق الفنية لعمليات ملء السد بحيث تتم عمليات ملء خزان السد على عدة سنوات وليس عامين كما تريد إثيوبيا، وبالفعل قامت إثيوبيا بعملية الملء الأول في يوليو 2020 والتي بلغت 4.9 مليار متر مكعب من مياه النيل.
واليوم تعلن إثيوبيا عن عزمها اكتمال عملية ملء الخزان في يوليو المقبل دون الاعتبار لحقوق مصر والسودان، وهو ما رفضته قيادتا البلدين رفضا قاطعا، وبدأ تحركا دبلوماسيا سريعا لكلا البلدين، مناشدين المجتمع الدولي تحمل مسؤولياته تجاه التصرفات الإثيوبية، فقد توحد الموقفين المصري والسوداني بشكل جاد وواضح (لأول مرة منذ بداية الأزمة) وتم رفض فرض سياسة الأمر الواقع من الجانب الإثيوبي. ولعل الزيارة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي، مؤخرا، إلى السودان وأعقبها بعدة أيام زيارة لرئيس الحكومة السودانية عبد الله حمدوك إلى مصر فسرت مدى التقارب، بل التطابق، في وجهة النظر المصرية والسودانية حيال “أزمة سد النهضة”.
لقد استغل الجانب الإثيوبي حالة الفوضى والحالة الرخوة التي مرت بها مصر في أعقاب أحداث الخامس والعشرين من يناير لعام 2011، حيث أعلن عن نيته إقامة “سد النهضة” في مارس لنفس العام، ليقوم بتدشين حجر أساس المشروع في الثاني من أبريل عام 2011. وبالرغم من ظهور نوايا غير واضحة من إثيوبيا فقد قبلت مصر الدخول في مفاوضات فنية وقانونية تحافظ فيها على حقوقها التاريخية في حقها من مياه نهر النيل والتي يؤكدها القانون الدولي، وفي تصرف واضح أنها ليست ضد حق إثيوبيا في إحداث تنميتها، وقد وقعت مصر مع كل من السودان وإثيوبيا على “اتفاقية المبادئ” في العاصمة السودانية الخرطوم في 23 مارس لعام 2015، بما يؤكد حسن النوايا المصرية تجاه الطرف الإثيوبي.
وظلت المفاوضات حتى تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية كوسيط لحل الأزمة، وهو ما قبلته مصر، وفي فبراير لعام 2020 وصل جميع الأطراف (مصر والسودان وإثيوبيا) إلى اتفاق حول النقاط الخلافية بشأن عمليات تشغيل السد وملء الخزان، إلا أنه عند التوقيع فاجأ الطرف الإثيوبي بالمغادرة وانسحابه دون التوقيع بعد حل ما يصل إلى 90% من الخلافات بين الأطراف.
وفي محاولات حثيثة من جانب “الاتحاد الأفريقي” وعقد قمة أفريقية مصغرة في صيف 2020 بشأن سد النهضة، كذلك اجتماعات وزراء المياه في مصر والسوان وإثيوبيا إلا أن كل تلك المفاوضات تجمدت ولم تصل إلى شئ.
واليوم، وبعد الإعلان الإثيوبي باستكمال المرحلة الثانية لملء خزان السد في محاولة منه تحدي الجميع وفرض الأمر الواقع.. لم يعد أمام مصر والسودان إلا التحرك الاضطراري لحماية حق الشعوب في مياهها التي تمثل حق الوجود ذاته، وهو ما اتبعته مصر والسودان في اتجاه لتدويل الأزمة وأن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته التاريخية حيال تلك الأزمة.
وبالتوازي مع التحركات المصرية “الرسمية” لدى أزمتها مع الجانب الإثيوبي يجب الانتباه إلى مواصلة سياسة “ضبط النفس” شعبيا وإعلاميا، وأن ندرك أنها نفس السياسة التي تتبعها القيادة السياسية، وأن نكون على يقين بأن النظام ومؤسساته ودوائر صنع القرار يتبعون استراتيجية مستمدة من محددات الأمن القومي للبلاد.. ولا يخفى أن “المياه” تقع على رأس تلك المحددات؛ إذ أنها الحياة للمصريين شعبا وأرضا.
إن المسؤولية التي تقع على عاتق النظام في حماية مياه نهر النيل تفرض عليه تحديات جسيمة واتخاذ قرارات صعبة حيال الأزمة الراهنة بين مصر وإثيوبيا، وكلي ثقة في أن الرئيس عبد الفتاح السيسي سيكون لديه خيارات اللحظة الأخيرة، إلا أن تلك الخيارات لا يعلن عنها مسبقا.
وإلى كل من يطالب بالحل العسكري ضد الطرف الإثيوبي، سواء كانت نداءات شعبية أو من خلال بعض وسائل الإعلام، عليه أن يهدأ؛ لإفساح الطريق للقيادة السياسية لاتخاذ القرار وفق ما تقتضيه الحكمة السياسية.
ولأن الملف منذ بدايته ملف سيادي بامتياز، والمعلومات عنه يجب أن تكون في دوائره فقط، لمنع الثرثرة التي قد تؤدي إلى نتيجة عكسية كما حدث في عهد الحكم الإخواني بمناقشة “أزمة سد النهضة” في اجتماع مذاع تليفزيونيا على الهواء مباشرة برئاسة الرئيس الإخواني (وقتها محمد مرسي).. لما كان ذلك، فعلى الإعلام ألا يتداول غير المعلومات اليقينية الموثقة، وترك الأمر لأهله، فالنيل له رئيس يحميه.