هل ما حدث في أفغانستان كان مفاجأة؟ وهل تترك الولايات المتحدة الأمريكية، كدولة عظمى، تصرفاتها دون قرارت وخطط مدروسة مسبقا؟ إن المشهد الأفغاني أجاب بكل وضوح أن كل ما اتخذته أمريكا لا يخرج عن كونه “غباءً سياسيا” ولم يتحسب لفرضيات الواقع والمستقبل.
قرار الانسحاب الأمريكي لم يكن مفاجئا، بل تفاوضت عليه إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وفق خطة لم تنفذ بعد. ولكن ما فعلته إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن أن يتم الانسحاب بهذه الطريقة هو المفاجأة.
طريقة الانسحاب ذاته هي المفاجأة، ومازالت المفاجآت تتوالى في مشهد غريب لتطرح العديد من الأسئلة لإنتاج إجابة واحدة، وهي أنه بعد عشرين عاما من الاحتلال الأمريكي لأفغانستان فقد انتصرت حركة طالبان وانهزمت أمريكا.
فقد دخلت أمريكا أفغانستان للتخلص من حركات الإرهاب العالمي وبالأخص تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن؛ بذريعة أن تنظيم القاعدة هو المسؤول عن تفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر لعام 2001.
ففي أقل من شهر على أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت القوات الأمريكية في الأراضي الأفغانية بمشاركة القوات البريطانية ولحق بهما فيما بعد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقد توالت الحروب والعمليات العسكرية لينهزم تنظيمي “القاعدة” و”طالبان” وتتحررأفغانستان من سيطرة “طالبان”، وتبدأ أمريكا في إعادة تشكيل أفغانستان كدولة ذات سيادة وديمقراطية بالمفهوم الأمريكي.
واليوم، وبعد عشرون عاما تنسحب أمريكا وبقية القوات الأجنبية من أفغانستان، ومنذ بداية تنفيذ الانسحاب استعادت “طالبان” تنظيم صفوفها وتدريجيا استولت على معظم الولايات الأفغانية حتى تمكنت من الوصول إلى العاصمة “كابول” لتعلن حكمها وفرض سيطرتها من جديد على البلاد.
أما الفوضى العارمة والحشود الهائلة التي تنقلها شاشات التليفزيون من مطار كابول ومحيطه لآلاف الرعايا الأجانب والمواطنين الأفغان أنفسهم ممن يعرفون بـ”المتعاونين” مع قوات الاحتلال الأمريكي، فكان طبيعيا حدوثه؛ خاصة وأن عمليات انسحاب القوات بدأت قبل إجلاء الرعايا والمدنيين المتعاونين من الأفغان.
كيف لدولة عظمى أن تترك رعاياها وأفراد بعثتها الدبلوماسية ورعايا دول أخرى قبل تنسيق كامل مع كافة المعنيين والقيام بعملية خروج وإجلاء آمنين لتبدأ بعدها عملية الانسحاب؟!! الكل في حالة ذعر وقلق في أن يسوقه القدر ويتم بقاءه إلى ما بعد 31 أغسطس الموعد النهائي لانسحاب القوات الأمريكية وحلفائها.
فالمواطنين الأفغان يخشون من “طالبان”، حيث ستبدأ عمليات الحصر والتفتيش للتنكيل بهم وبدء عمليات تعذيب ومذابح كما حدث سابقا في عهد ولايتهم الأولى وإعلانهم إمارة أفغانستان الإسلامية في 27 سبتمبر 1996.
إن ما حدث في أفغانستان يوجب محاسبة الإدارة الأمريكية عليه، فلا يتوقع أن تأتي التداعيات بما تشتهي الأنفس.
وإذا كان التواجد الأمريكي في أفغانستان منذ عشرين عاما بغرض القضاء على التنظيمات الإرهابية والتي وجدت في أفغانستان ملاذا آمنا للتدريب والانطلاق.. فهل تم إنجاز هذا الهدف وأصبحت تلك التنظيمات كالعدم؟!!
وكيف للجيش الأفغاني الذي قوامه 300 ألف جندي لم يستطع الصمود أمام حركة “طالبان” وفر هاربا من مواجهتها؟ وأين مليارات الدولارات التي أنفقتها أمريكا على تدريب هذا الجيش وتزويده بمعدات الجيوش النظامية؟!
إن خبراء في شؤون الاستخبارات والجماعات الإرهابية يحذرون من وقوع هجمات إرهابية قد تتصاعد في المرحلة القادمة على أمريكا، وحذر الخبراء من تنظيم “القاعدة” على وجه الخصوص، وأن هجوما وشيكا على أمريكا قد يحدث من التنظيم وعلى أعلى مستوى منذ 20 عاما.
ومع سيطرة “طالبان” على مقاليد الأمور في أفغانستان فإن تنظيم القاعدة سيعيد تنظيم صفوفه من جديد وينشئ مركزا في أفغانستان لانطلاق عمليات إرهابية جديدة تهدد الأمن القومي لدول الغرب.
وهنا السؤال الأهم، ماذا عن الخطر القادم من أفغانستان في حال ترعرعت التنظيمات الإرهابية مرة وانطلقت أعمالها لتمتد إلى دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟! إن ما قامت به إدارة الرئيس جو بايدن بانسحاب غير آمن يعد بداية لسلسة من الجرائم المتلاحقة التي ستفرضها التداعيات، ولعل هذا ما دفع غريمه الرئيس السابق دونالد ترامب أن يوجه اللوم له أمام تجمع حاشد لأنصاره في ولاية ألاباما قائلا: إن “انسحاب بايدن الفاشل من أفغانستان هو أكبر إظهار مثير للدهشة لعدم الكفاءة الفادحة من قبل رئيس للبلاد ربما في أي وقت”.
وواصل “ترامب” هجومه واصفا الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بهذه الطريقة أنه “أكبر مهانة في مجال السياسة الخارجية” تعرضت لها أمريكا في تاريخها. وتابع”ترامب” مبديا أسفه على الخسائر الباهظة والأفراد والمعدات الأمريكية التي تركها “بايدن” انسحاب القوات. وقال:”هذا ليس انسحابا، هذا استسلام كامل”.
إن ما حدث في أفغانستان خلال الأيام الماضية لا يمكن وصفه إلا أنه مسرحية كبرىلانتصارات حققتها “طالبان” وهزيمة ساحقة منيت بها أمريكا، وفي “كابول” كان المشهد الأعظم لمسرح العمليات.. حقا، إنها عاصمة النصر والهزيمة.