انتهى اجتماع ممثلو 200 دولة في العالم في مدينة جلاكسو الأسكتلندية بالمملكة البريطانية فيما عرف بقمة المناخ السادسة والعشرين؛ لبحث تداعيات التغيرات المناخية وتأثيراتها على البيئة والطبيعة في مختلف دول العالم نتيجة النشاط الصناعي المتزايد والذي ساهم في ارتفاع درجة حرارة الأرض.
وفي محاولات من قادة العالم لكبح جماح ظاهرة الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية المصاحبة كـ(الفيضانات، الأعاصير، احتراق الغابات، والتصحر، الانهيارات الأرضية، وانتشار الجراد الصحراوي) إلا أن الرغبة السياسية الجادة لم تتوفر حتى الآن، ولعل أكبر دليل على هذا هو مقاطعة الولايات المتحدة الأمريكية اجتمعات قمة المناخ طيلة السنوات الأربعة الأخيرة (عهد الرئيس السابق دونالد ترامب).
وفي حقيقة الأمر، حين البحث في تاريخ النشاط الصناعي وما نتج عنه من تلوث بيئي أثر على الطبيعة وصحة الإنسان وكذلك أدى إلى خفض معدلات الثروة الزراعية والحيوانية، فعلى الفور يتبادر إلى الذهن تلك الدول العملاقة التي كان لها الفضل في هذه الثورة الصناعية التي لم تدرك مخاطر تلك الصناعة (وقتها) في المستقبل.
وقد تفاخرت تلك الدول بالتقدم العلمي الهائل وما تبعه من تقدم صناعي كبير أدر عليها ثروة مالية ضخمة؛ مما جعلها صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم والتمكن السياسي الذي سهل وصول نفوذها لبقية الدول النامية في مختلف مناطق العالم.
وحين أدركت تلك الدول خطورة النشاط الصناعي وما ينتج عنه من ملوثات تهدد البيئة وصحة الأجيال المتعاقبة، قررت تلك الدول التخلص من تلك (الصناعات القذرة) ونقلها إلى الدول الفقيرة والتي أوهموها بأن في تلك الصناعة أملهم وخروجهم من فقرهم، وبحجة أن البيئة عندهم مازالت بكرا ولن تتأثر بالانبعاثات الضارة والملوثات الناتجة عن تلك الصناعة.
ولأن الدول الفقيرة ودول العالم الثالث كانت في حاجة ماسة إلى أنشطة اقتصادية تدر عليها عائدا استراتيجيا من تصدير تلك المنتجات للدول الكبرى التي تخلصت من تلك الصناعات الخطرة (الصناعات القذرة) فقد قبلت، كما أن تلك الصناعات أنعشت سوق العمل وساهمت في رفع سوق العمل وخفض معدلات البطالة.
ومن أهم الصناعات القذرة التي تخلصت منها أوروبا وأمريكا صناعات (الحديد والصلب، السيراميك، الأسمنت، والأسمدة، الزجاج، الخزف والصيني، المطاط، لب الورق، البلاستيك، الجلود، الحراريات، مصافي البترول، والصناعات الكيماوية). كل هذه الصناعات تصدر ابنعاثات غازية شديدة الخطورة على صحة الإنسان والبيئة المحيطة، وتجرمها قوانين البيئة والمنظمات الدولية والبنك الدولي.
ومما سبق يتضح لنا أن دول العالم الكبرى التي تتباكى اليوم مما ينتج من هذا النشاط الصناعي (القذر) ويلومون عليه دول العالم الثالث في عدم مجابهته هم أنفسهم من أنتجوا الأزمة، وكان لزاما عليهم أن يتحملوا التكلفة كاملة. إن هذه الدول الكبرى أمام أزمة أخلاقية أمام العالم أجمع بما وصلنا إليه بسبب تقدمهم الصناعي الهائل ونجاحهم في توطين تلك الصناعات في الدول الفقيرة واعتبارها “صناعات مهاجرة” و”ليست صناعات قذرة”.
نرى اليوم أن قارة كالقارة الأفريقية إحدى أكبر ضحايا التغيرات المناخية وتلك الصناعات القذرة، فبالرغم من أن أفريقيا مسؤولة عن 4% فقط من غازات الاحتباس الحراري في العالم، إلا أنها القارة الأكثر تعرضا لمخاطر التغيرات المناخية؛ وهو ما دعا رئيس الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي (الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي) قادة العالم أمام اجتماعات الأمم المتحدة الأخيرة إلى ضرورة قيام المجتمع الدولي بمسؤولياته الفاعلة، مطالبا إدراج تمويل تكيف أفريقيا مع ظاهرة الاحتباس الحراري من أولويات الدورة 26 لمؤتمر المناخ للأمم المتحدة والتي أنهت أعمالها مؤخرا.
وبحسب تقارير دولية فجزء كبير من أفريقيا سيشهد ارتفاعا في درجات الحرارة بأكثر من 2 درجة مئوية مقارنة بفترة ما قبل الصناعة.
وفي أحدث تقرير علمي فإن احتمال ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى 4 درجات مئوية في الفترة من 2081 إلى 2100 سيؤدي إلى تدهور كبير في المحاصيل الزراعية من 14 إلى 26%، وتهديد الثروة المائية والغذاء والأمن الصحي. كما أن الطفل المولود في عام 2020 يعاني 50 ضعفا من ارتفاع الحرارة وبمعدل 6 مرات من ذلك الطفل المولود في فترة ما قبل الصناعة؛ وبناء على ذلك وبحسب تقديرات البنك الدولي في تقرير له في مارس 2018 فهناك احتمال كبير لارتفاع أعداد المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء بحلول عام 2050 إلى 86 مليون مهاجر بسبب أزمات تغير المناخ.
وليس تغيرات المناخ فقط هي الدافع الوحيد للشباب الأفريقي للهجرة، ولكن الأوضاع الاقتصادية التي آلت إليها معظم الدول الأفريقية، وخاصة بعد أزمة انتشار وباء فيروس كورونا والتي أضرت الاقتصاد الأفريقي خلال العامين الأخيرين، فالاقتصاد الأفريقي أمامه تحديات كبرى أمام عودة المستثمرين وعودة ضخ رؤوس الأموال في ظل المخاطر الموجودة من صراعات وبؤر إرهابية في مختلف أنحاء القارة.
ومن اللافت للانتباه هو اعتراف رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون خلال أعمال قمة المناخ الأخيرة، حين قال، “إن الدول الصناعية لم تكن مدركة للمشكلة وعلينا واجب التغيير”. أخيرا، فإن تعهد أمريكا والصين بالتعاون في مجابهة التغيرات المناخية، باعتبارهما أكبر دولتان في العالم إنتاجا للمخلفات الكربونية الملوثة للبيئة، يجب ألا يؤخذ على محمل السرور إلا بالبدء في التنفيذ الفوري على أرض الواقع، خصوصا بعد تصريح رئيس مؤتمر الأطراف للمناخ ألوك شارما حين قال إن المؤتمر يمثل الأمل الأخير.
نحن أمام أزمة أخلاقية تسببت فيها تلك الدول العظمى وعليهم إنهائها بتعهد سياسي وأخلاقي أمام العالم مما سببوه مناخيا واقتصاديا.