بتاريخ 20-01-2022، أصدرت الدائرة الاستئنافية بالمحكمة الإداريّة المتعهّدة في اختصاص النزاعات المتعلقة بالمجلس الأعلى للقضاء حكما ابتدائي الدرجة تحت عدد 215183 يبطل القرار عدد 107 الصادر عن المجلس الأعلى للقضاء بتاريخ 13-07-2021 والقاضي “بإيقاف القاضي بشير العكرمي عن العمل وإحالة ملفّه على النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس”.
وقد أثار هذا الحكم سجالا إعلاميا هامّا اعتبارا لما بات لمؤاخذة العكرمي من بعد سياسيّ. وقد تأتى ذلك من الاتّهامات التي وجّهها إليه محامو القائمين بالحقّ الشخصي في القضيتين المتعلقتين بواقعتيْ اغتيال الناشطيْن السياسيين شكري بلعيد و محمد البراهمي وتحديدا من هيئة الدفاع عن الشهيدين -كما تسمّى محليا- بالتغطية على دور حزب حركة النهضة في ذلك وفي القضايا الإرهابية الأخرى ومنها قضية ما يصطلح إعلاميا على تسميتها بقضية الجهاز السري التي قاموا بإثارتها.
كما زادت الشحنة السياسية للقضية بفعل استخدام رئيس الجمهورية قيس سعيد لنفس التهمة الموجهة إلى “العكرمي” في صراعه مع النهضة من جهة ومع القضاء الذي نسب له التقصير في الحرب على الإرهاب والانغماس في الفساد من جهة ثانية.
ومقابل هذا الاتهام، تمسك طيف سياسي بأنّ التهمة الموجهة لعكرمي ومن خلفه أحزابا سياسية والقضاء لم يستند لوقائع مؤيدة وإنما كان فقط محاولة لجرّ القضاء لمربع الصراع السياسي واستعماله لتصفية خصم سياسي من دون اعتبار للحقيقة القضائية التي بينتها الأبحاث التي تمت.
وفي إطار تعليق الطرفين السياسيين على الحكم، حضرتْ مجددا نظرية المؤامرة في جانب المعارضين للعكرمي والذين اعتبروا أن إصدار المحكمة الإدارية لقرارها يوما واحدا بعد إمضاء الرئيس مرسوما يلغي منح وامتيازات أعضاء المجلس الأعلى للقضاء.
كما ذهبوا إلى القول بأن الحكم القضائي كان سند منطوقه إخلالات إجرائية أورثها أعضاء المجلس العدلي قرارهم التأديبي عمدا ليسهل بعد ذلك نقضه وهو -دوما حسبهم- أمر يبرّر المطالبة بحلّ ذاك المجلس الذي قدّم بفعله هذا دليلا لا يقبل الردّ على فساده. بالمقابل، اعتبر الفريق الآخر الحكم الذي لم ينشر حتّى اليوم تسبيبه ولا زال قابلا للطعن دليل براءة حاسم يؤكد المؤامرة التي تستهدفهم والتي كان التشويه والادعاء والضغط على القضاء سلاحها.
وبعيدا عن سجال الطّرفين، والذي يتبيّن من خلاله أن المؤاخذة التأديبية للعكرمي باتت إحدى أبرز قضايا الشأن العام، والتي يفترض تعميم المعرفة والنفاذ للمعلومات بشأنها.
وفي هذا الاطار وفي سياق محاولة موقع “المفكرة القانونية” لتمكين قرائها من صناعة قناعاتهم في الموضوع بعيدا عن التجاذبات وربما العصبيات السياسية، يجدر التوضيح بالاستناد للائحة الحكم أن إلغاء الدائرة الاستئنافية للقرار التأديبي تم تعليله بثلاثة أسباب:
أنه اعتمد التعهّد التأديبي التلقائي بما يخالف أحكام الفصل 56 من القانون عدد 29 لسنة 1967 الذي لم يمنح مجلس التأديب هذه الصلاحية.
وكان مجلس القضاء العدلي قد تعهّد كمجلس تأديب بملف العكرمي بناء على قرار إحالة صدر عن وزيرة العدل بالنيابة حينها حسنة بن سليمان مؤرخ في 23/02/2021 وتمسّك بذلك في قراره المؤرخ في 11/3/2021 رغم أن هذه الأخيرة عادت لتطلب بعد يوم واحد سحب الملف لحصول خلل إجرائي في قرار الإحالة الذي شمل مجموعة من القضاة من دون أن يخصّص كل واحد منهم بملفّ خاص به. وقد علّل المجلس موقفه بأن الإحالة التي صدرت عقدتْ له اختصاص النظر في الموضوع وأنه سيتكفل بتخصيص كل قاض بملفه الخاص. وهو ما لم يقبل به قضاء المحكمة الإدارية الذي اعتبر أنه تبعا ل “إصدار وزيرة العدل قرارا بالرجوع في قرار الإحالة لانبنائه على عيوب تنال من شرعيته، يكون تعهّد مجلس التأديب رغم ذلك بملف القاضي المعني تعهدا تلقائيا مخالفا للقانون ويفقد التتبع أي سند شرعي.”
عدم شرعية تركيبة مجلس التأديب على معنى الفصل 65 من القانون عدد 34 لسنة 2016 لتضمنها عضوا مجرّح فيه لمخالفة سرّية المفاوضة والتصويت وإبداء موقف مسبق من الملف.
تمسك “العكرمي” في عريضة طعنه بكون أحد أعضاء المجلس العدلي من غير القضاة سرّب وثائق الملف التأديبي وكشف رأيه فيه قبل موعد انعقاد مجلس التأديب. كما أدلى بأنه تقدّم بتاريخ 10-06-2021 بطلب تجريح في ذاك العضو ولكن مجلس التأديب لم يبتّ في الموضوع تقصيرا منه، بما سمح للمعني بالنظر في الملف في اتجاه مؤاخذته.
وقد اعتبرتْ المحكمة الإدارية أن هذا الدّفع جدّي لما ثبت لها من خلال ملف التجريح من كون عضو مجلس القضاء المعني “سعى إلى تسريب الملف التأديبي والتداول بشأن أفعال منسوبة إليه خارج إطار المجلس وإسنادها توصيفات تظهر موقفه السلبي من العكرمي” وبيّنت أن فعله ذاك يتعارض مع “الحقوق الأساسية المستمدة من أصول المحاكمة العادلة” أي “ضمان استقلالية وتجرّد أعضاء الهيئة التأديبية عن الشخص محلّ التتبع التأديبي بعدم اظهار موقف مسبق بخصوصهم”.
وقد يكون من أهم ما ورد في تسبيب المحكمة لهذا الدفع قولها “أن التساوي في مواقف أعضاء المجلس عند التصويت على ملف العارض واللجوء لصوت الرئيسة المرجّح لحسم التصويت يجعل الطعن المسبق في أحد الأعضاء مؤثرا لوجود فرضية التصويت لصالح القاضي المحال على المجلس لو تمت الاستجابة لطلب التجريح واستبعاد العضو المعني من التصويت”. وعليه، تكون المحكمة الإدارية ألمحت إلى أن عدم نظر مجلس القضاء في ملف التجريح إنما أثر على نتيجة التصويت، مما شكّل بالنسبة إليها انحرافا بالسلطة.
انعدام السند الواقعي والقانوني للقرار المنتقد من خلال مخالفة مقتضيات أحكام الفقرة الثانية من الفصل 63 من القانون عدد 34 لسنة 2016.
عادت المحكمة الإدارية إلى فقه قضائها الذي استقرّ على تعريف الانحراف بالسلطة الذي يخدش الإجراء الإداري بأنه الانحراف الذي يتوضح لما تكون الغاية من اتّخاذه هي خدمة غرض غير الذي خصصه القانون”. وقد انتهت بالنتيجة إلى أنّ ما تبين لها من اختلال جسيم لنصاب التصويت كان نتيجة لمشاركة عضو مجرح فيه في مجرياته والإصرار على التتبع في غير الصورة الإجرائية الواجبة إنما تشكل قرائن تؤكد انحراف مجلس القضاء بسلطته في مواجهة العكرمي. وينقل موقفها هذا الاتهام بالتوظيف للشق الذي سعى للمؤاخذة والذي عابتْ على قراره:
الاكتفاء “بسرد الوقائع التي وردت بتقرير التفقد بخصوص الأعمال القضائية التي تولاها العكرمي دون تحديد مضمونها العام على معنى القانون الجزائي وتاليا من دون تحديد الخطأ الجزائي المنسوب له”[3] إنكار “اختصاصه التأديبي.. بالامتناع عن إعمال صلاحيته في التكييف القانوني للأفعال المنسوبة للعارض في تقرير التفقد وبيان كيفية اندراجها المبدئي ضمن الأخطاء التأديبية”، عدم التحقق من “صحة المعطيات المادية مع الوصف القانوني للخطأ التأديبي وتضمينها بقرار الإيقاف عن العمل”.
خلاصة:
يستفاد من هذا أن الحكم الذي صدر وقضى بإلغاء القرار التأديبي موضوعه انتهى إلى كشف إخلالات جوهرية به منها ما تعلق بالشكل ومنها ما كان متعلقا بالأصل. وتمكينا للرأي العام من تكوين قناعاته بمنأى عن التجاذبات والعصبيات، تبادر المفكرة القانونية إلى نشر المستندات الآتية:
*الجزء الخاصّ بملفّ بشير العكرمي من تقرير التفقدية العامة لوزارة العدل سند المؤاخذة.
*ردود القاضي العكرمي على التقرير والتي يتبيّن من الحكم الذي صدر أن المحكمة الإدارية اعتبرتْ أنّها لم تحظَ بالبحث من المجلس التأديبي، القرار التأديبي الذي صدر في حقه.
*الحكم الابتدائي الإداري موضوع التعليق.
وهي تأمل من خلال ذلك بتكريس الحق في النفاذ إلى المعلومة في القضايا التأديبية للقضاو بما يقطع مع كل محاولات تنزيه القضاء عن المحاسبة وفي الآن نفسه استخدام ما يصطلح على تسميته بالفساد القضائي لاستهداف استقلالية القضاء.
ونلاحظ هنا أن جميع الوثائق المذكورة عرضت في جلسة قضائية عمومية بما ينزع عنها السريّة. كما نذكّر أننا بادرنا إلى حذف كلّ المعطيات التي تمس بالمعطيات الشخصية للأفراد أو قد يكون لها اتّصال بالأمن العام.
[1] عملا بأحكام الفصلين 57 و77من القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء يقبل الحكم في اجل عشرة من تاريخ الاعلام به الطعن بالاستئناف أمام الجلسة العامة للمحكمة الإدارية وهو لهذا الاعتبار ولما ينتظر من طعن فيه من مجلس القضاء العدلي بالاستئناف حكم غير بات . [2] موقف تمسك به الإعلامي رياض جراد الذي بات يعرف بكونه من المقربين من القصر الرئاسي في تعليقه على الحكم عند حضوره ببرنامج Rendez vous الذي تبثه قناة التاسعة ومن بعد تم تداوله في كل المواقع المساندة للرئيس.
[3] القرار التأديبي اعتبر ان ما نسب للعكرمي يشكل جرائم على معنى القانون الجزائي. ولكنه حسب منطوق الحكم القضائي الإداري لم يبين كيف توصل لهذا الاستنتاج. كما لم يبيّن ما هي الوقائع التي تشكّل جرائم على معنى القانون الجزائيّ وتبيّنت لمجلس التأديب أدلّة جديّة على استغراقه لها.