انتهى موسم حج المسلمين الوافدين من جميع أنحاء المعمورة في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، وأعقبه في ذات الأسبوع موسم حج سياسي أمريكي في المنطقة بدأ بدولة الاحتلال الإسرائيلي لينتهي في جدة بالمملكة العربية السعودية؛ ولكن الحج الأمريكي الذي مارس طقوسه الرئيس الأمريكي والوفد المرافق جاء لاستجداء زعماء المنطقة العربية لعودة أمريكية إلى المنطقة التي غادروها طواعية ظنا منهم أن المهمة انتهت، وأن عليهم توجيه بوصلتهم إلى منطقة الشرق الآسيوي والمحيط الهادئ لمواجهة المارد الصيني الذي بات المهدد الأكبر للمارد الأمريكي اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا.
جاء الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن إلى السعودية باحثا عمن يدفع ثمن أخطاء إدارة بلاده كما كان الحال في السابق، ولكن لم يدرك “بايدن” أن الظروف تغيرت، وأن القادة أنفسهم تغيروا وتغيرت معهم سياساتهم ورؤاهم، وربما كانت أمريكا ذاتها أحد الأسباب الرئيسية في هذا التغيير.
جاء “بايدن” حاملا معه هموم المدللة إسرائيل، آملا أن يصنع تحالفا جديدا يضمها مع عدد من الدول العربية يضمن حمايتها في مواجهة أي تحركات إقليمية في المنطقة تهدد دولة الاحتلال، في إشارة إلى إيران، خاصة بعد تعقد مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني مع أمريكا ودول الغرب.. في نفس الوقت لم يقدم “بايدن” حتى مجرد الفائدة التي تعود على الدول العربية من هذا التحالف.. فقد أراد تحالفا عربيا يحمي دولة تحتل دولة عربية دون مقابل، فالعرب تعلموا الدرس من الأستاذ الأكبر (أمريكا) ألا شئ دون مقابل بعد اليوم.
جاء “بايدن” ومعه آماله أن تنقذه بلاد النفط العربي، وأن ترفع من حجم إنتاجها لتخفيض أسعار المحروقات التي زادت أسعارها في بلاده متجاوزة الـ6 دولار للتر البنزين بعد تزايد وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية التي أوقدتها أمريكا ذاتها. وبسبب نفس الحرب شهد الاقتصاد الأمريكي سلسلة من الهبوط الاقتصادي بارتفاع غير مسبوق للتضخم أدى إلى زيادة الأسعار في كافة السلع والمنتجات فوق طاقة المواطن الأمريكي.. وهنا كان لـ”بايدن” وإدارته البحث عن حل.
لقد بحث “بايدن” في الدفاتر القديمة، ووجد منطقة الشرق الأوسط التي غادرتها بلاده ليستقر وجودها الجديد في شرق آسيا والمحيط الهادئ، ووجد الحلفاء القدماء والذي في جعبتهم أموالا طائلة وثروة فيها إنقاذ بلاده من جحيم أسعار النفط، فكان التفكير في المملكة السعودية (أكبر مصدر للنفط عالميا)، ولا ننسى هنا أنها ذات الدولة التي وعد “بايدن” بجعلها منبوذة في الشرق الأوسط، متعهدا بألا يكون بينه وبين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أي معاملات رسمية على خلفية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، إذ أراد “بايدن” تحميل مسؤولين بارزين في النظام السعودي وولي العهد مسؤولية جريمة مقتل “خاشقجي”.
واليوم ها هي الدولة التي وعد بجعلها منبوذة وها هو ولي العهد يستقبله على باب قصر السلام (مقر قمة جدة للأمن والتنمية) ويترأس أعمال القمة التي يشارك في أعمالها “بايدن” مع 9 من قادة العالم العربي.
الملاحظ لأعمال القمة سيرى أن “بايدن” منصت جيد، واستمع بحرص شديد إلى كلمات القادة العرب، ورغم أن الكلمات كانت بروتوكولية إنشائية في أغلبها تتحدث عن حرص الأطراف العربية على العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنها حملت إشارات ومدلولات أن الظروف تبدلت، وأن الواقع الجديد يفرض على الجميع النظر إلى مصالحه، وأن دول المنطقة لن تكون حليفا أو تسير في ركاب سياسات الهيمنة الأمريكية التي فرضتها في السابق، وأن تنوع التحالفات بحسب ما يكون الصالح هي السياسة الجديدة لدول المنطقة العربية؛ حيث الندية في التعاملات وإبرام العلاقات الدولية، فلن يكون هناك حليف وحيد.
لعل التحركات العربية التي سبقت قمة جدة ساهمت في توصيل رسالة مفادها أن العرب أقوياء ويمتلكون قوة يستطيعوا استخدامها وقت تقريرهم ذلك، وأنهم لا يمكن أن يقبلوا بفرض إملاءات أو ضغوط خارجية لا تصب في مصلحتهم، وأن لغة “الفائدة” و”المقابل” هي لغة السياسة الجديدة، ولا أعمال تطوعية أو منح مجانية بعد اليوم.. والأهم هو التأسيس لهذا النهج السياسي العربي وأن تكون هناك رغبة عربية حقيقية في إرسائها والتعامل بها في ملفات السياسة الخارجية والعلاقات الدولية.
إن “بايدن” مقبل على انتخابات مجلس الشيوخ “الكونجرس” في نوفمبر المقبل، وبالطبع فالحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه سيواجه معركة انتخابية شرسة في مواجهة الحزب الجمهوري على إثر الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي كانت نتاج تخبطات قرارات وسياسات “بايدن” وإدارته الجديدة، ومؤشر الشواهد المبدأية أن الأغلبية ستكون للجمهوريين في المجلس القادم، ناهيك عن المأزق الناشئ عن إعلان الرئيس الأسبق دونالد ترامب عن إعلانه خوض الرئاسة الأمريكية في 2024، والتدني الاقتصادي المستمر بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي أشعلتها إدارة “بايدن”.. وهنا نتذكر المثل الشعبي (من حضّر العفريت يصرفه)، وأمريكا هي من دقت طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا وعليها أن تنهيها، ولكنها للأسف تزيدها اشتعالا.
إن وجهة “بايدن” إلى المنطقة من جديد يجب أن يكون لها حائط صد منيع، فليس في أي وقت يقرر المجئ أو الانصراف، فقد تحدث “بايدن” مؤكدا أنه لن يترك فراغا في المنطقة تملاؤه روسيا أو الصين أو إيران! وهنا نسأل من أي موقع يقرر “بايدن” هذا الوعد أو هذا القرار؟!.. فهل هو من يملك المنطقة أو الوصي على قرارتها، أو هو من يحدد إذا كانت المنطقة تشهد فراغا من عدمه وهل هو من يقرر من يملأ هذا الفراغ؟!!
بالرغم من إشارة معظم المراقبين إلى حدوث مكتسبات لأمريكا والدول العربية المشاركة في قمة جدة، إلا أنني أرى أن المكاسب الفعلية لا بد أن أنراها واقعا أمام أعيننا على أرض الواقع، وأن القمة تعد اختبارا حقيقيا لقوة العرب ومدى إنفاذ رؤيتهم بما تهدف إليه مصلحة شعوبهم.