يشهد السوق العالمي أزمة معقدة الجوانب من ركود اقتصادي وتضخم بالأسعار واضطرابات بسلاسل الإمداد نتيجة جائحة “كوفيد 19” والحرب الروسية – الأوكرانية ومسلسل الصراعات الاقتصادية والأيديولوجية السياسية بين القوى العالمية والإقليمية. فقد ألقت مجريات ما يحدث على المسرح العالمي بظلالها على سوق العمل وتسببت في ارتفاع نسب البطالة بين الشباب والعاملين، حيث فقد الملايين لوظائفهم، وأغلقت ملايين الشركات حول العالم أبوابها أو أفلست لعدم قدرتها على الاستمرارية والتنافسية في ظل الظروف الصعبة والقاسية التي يشهدها العالم حالياً.
وتُظهر التقديرات بأن أعداد العاطلين عن العمل عالمياً، وصل إلى 207 ملايين شخص عام 2022 مقابل 186 مليوناً في 2019. وأن أعداد الشباب العاطلين عن العمل في عام 2022 سيتجاوز 73 مليون، وأعلى بستة ملايين من مستوى ما قبل الجائحة، وتشير التوقعات لموجة جديدة من زيادة الأعداد بالعام 2023.
على المستوى العربي، تسجل الدول العربية أعلى وأسرع معدل بطالة بين الشباب، مع توقعات بوصولها إلى 24.8% في عام 2022، ووصول معدل البطالة بين النساء إلى 42.5% في نفس العام، وهو ما يقارب ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي للبطالة للنساء البالغ (14.5%).
ويؤكد أحدث تقرير لمنظمة العمل الدولية، أن التعافي في أسواق العمل سيظل بطيئاً، وذلك مع مخاوف انتشار الأوبئة واستمرار تحديات أسواق العمل العالمية، والذي سيجعل معدلات البطالة أعلى من مستويات ما قبل “كوفيد 19” حتى عام 2023 على الأقل.
وتحذر التقارير العالمية بأن من شأن هذه النسب المرتفعة من البطالة أن تضعف النسيج الاقتصادي والمالي والاجتماعي في الدول، في وقت لا زالت فيه الآفاق هشة والطريق إلى التعافي بطيء ويسوده الضبابية وعدم اليقين.
يشهد العالم بالفعل مشاكل سياسية واجتماعية وأمنية عميقة تلحق بدورها أضراراً وتشوهات كبيرة بأسواق العمل. ليس ذلك فحسب، بل نجد أيضاً زيادة لا تقل خطراً في معدلات الفقر، وعدم المساواة.
الحقيقة الواضحة للجميع أنه لا يمكن أن يكون هناك استقرار حقيقي دون تعافي سوق العمل على نطاق واسع. ولكي يؤدي هذا الاستقرار لانتعاشٍ مستدام، يجب أن يُقوَّم سوق العمل ويستند إلى مبادئ العمل اللائق – بما في ذلك الصحة والسلامة والإنصاف والحماية الاجتماعية – وأن يدعم هذا المنهج من خلال الحوار الاجتماعي لمزيد من الفهم الصحيح والشفافية بين صانع القرار وسوق العمل بكل أصحاب المصلحة، ورؤية متوازنة تجمع صاحب العمل والعامل والمجتمع والأسرة في منظومة مترابطة المنافع بلا جور لطرف ضد الآخر. وبطبيعة الحال، يضيف كل ذلك عبئاً أكبر على راسمي السياسات لمعالجة الاختلالات في سوق العمل ووضع سياسات وطنية قصيرة وطويلة المدى للحد من فجوة التشغيل.
من الناحية العملية، وما هو واضح لنا هو أن الضرر على سوق العمل سوف يحتاج سنوات عديدة لإصلاحه، وسيترتب على ذلك من عواقب طويلة المدى على القوى العاملة، ودخل الأسرة، والتماسك الاجتماعي وربما السياسي.
ما ينبغي أن يعيه راسموا السياسات جيداً هو أن للبطالة آثار سلبية عديدة على الفرد والمجتمع، قد تتمثل في أبسط أشكالها بالاكتئاب وتؤثر في الصحة العقلية وارتفاع معدلات الجريمة وصولاً إلى التأثير في إنتاجية وتنافسية اقتصادات وأمن الدول.
ولإنقاذ سوق العمل، وتقليل فجوة البطالة الراهنة بين الشباب والقوة العاملة، لا بد من تطوير رؤى وخطط وطنية وإقليمية واضحة تسعى لإيجاد حلول حقيقية – وليست بندولية – من أجل فتح آفاق اقتصادية مختلفة لاستيعاب الأعداد المتفاقمة من العاطلين وتهيئتهم وتطويرهم لسوق العمل؛ وحتى لا يكون ملايين الشباب العاطل عن العمل بارود كامن قابل للإنفجار، ويدمر المجتمعات، ويكون سبباً في إحداث القلاقل والمشكلات للحكومات – خاصة في الدول الفقيرة – الغير قادرة على استيعاب الشباب والعاطلين عن العمل ببرامج الحماية المجتمعية المختلفة واختيار الحلول التي تتركهم للمجهول.
نحن بحاجة لمضاعفة قدراتنا على تنمية الأعمال وتأسيس الشركات والمؤسسات والمصانع التي يمكنها استيعاب العمالة المتزايدة بسبب زيادة المواليد وتشغيل العاطلين عن العمل. من هنا يجب أن يعاد النظر بشكل جذري وحاسم في السياسات الحكومية الرامية لتشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي.
ويطرح هنا السؤال نفسه، هل بالفعل دولنا جاذبة للاستثمار مقارنة بالدول الأخرى؟ وهل تم تهيئة الدولة وبنيتها التحتية والتشريعية والاجتماعية كأحد ممكنات الاقتصاد الوطني ولتساعد المستثمر أن يتواجد وبفكر استراتيجي طويل المدى؟ إن لم تكن الإجابات على مثل هذه التساؤلات صريحة وواضحة وشجاعة – إما بالإيجاب أو النفي – فإن التحديات الاجتماعية والاقتصادية ستستمر في خط سير التفاقم وستضع الدول في دوائر متعثرة سترميها حتماً في أحضان مستقبل غامض ومقلق، وستأتي الحلول حينها بتكلفة باهظة جداً!
* كاتب المقال: مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية بجامعة الدول العربية ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي.