“طريق الألف ميل يبدأ بخطوة”… مثل شهير يدل على حالة الإرادة والإصرار على الوصول إلى هدف ما أو تحقيق طموح على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول.
وفي حالة العلاقات المصرية التركية المتوترة بعد إزاحة الحكم الإخواني بفعل ثورة 30 يونيو في العام 2013 نجد أن المثل جال في خاطر الكثير من المراقبين والمتابعين لشأن العلاقات بين مصر وتركيا؛ خاصة بعد لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي ومصافحتهما في لقاء عابر في العاصمة القطرية الدوحة خلال احتفال قطر بافتتاح فعاليات كأس العالم لكرة القدم والتي تستضيفها قطر هذه الدورة.
ونالت الصورة التي جمعت الرئيسين السيسي وإردوغان صيتا ذائعا، وتحليلات لم تتوقف بعد؛ نظرا للمفاجأة التي لم يتوقعها أحد… فقد كانت هناك اجتماعات إقليمية ودولية شارك فيها كل من “السيسي” و “إردوغان”، لكن لم يلتقيا أو يتصافحا بهذا الود، فما المتغير الحاصل هذه المرة؟!
توترت العلاقات بين مصر وتركيا بعد إزاحة شعبية مصرية كبيرة للحكم الإخواني لمصر لمدة عام كامل والذي كان مدعوما من تركيا، وهاجم “إردوغان” الرئيس السيسي، بشدة، وكان وقتها وزيرا للدفاع، وظل الهجوم التركي على مصر متواصلا إلى أن سلم “إردوغان” وأدرك حقيقة الواقع المصري الرافض للجماعة الإخوانية، وبدأ “إردوغان” رحلته في إذابة الجليد بين بلاده ومصر، مطلقا إشارات المصالحة وعودة العلاقات إلى طبيعتها مع مصر.
وبدأت مفاوضات- غير معلنة- بين الجانبين المصري والتركي على مستويات أمنية ودبلوماسية خلال اجتماعات إقليمية ودولية خاصة بالأزمة الليبية والتي فيها بعد كبير وخاص متعلق بالأمن القومي المصري، إلا أن لقاء “السيسي” و “إردوغان” في “الدوحة” نقل تلك الحالة من المفاوضات السرية إلى العلانية.
وفي أغلب الظن جاء لقاء “السيسي” و “إردوغان” بترتيب من أمير قطر الشيخ تميم بن حمد الذي ظهر مبتسما خلفهما، ما يترجم الحدث بأنه نجاح قطري لحدوث هذا اللقاء، ومصافحة الرئيسين “السيسي” و “إردوغان” في صورة وصفت ب “التاريخية”.
وعلى الرغم من أن البعض وصف اللقاء بأنه لقاء قمة، إلا أن اللقاء بعيد تماما عن أي لقاء قمة، فما زالت العلاقات بين البلدين متجمدة ولم تتحرك سوى في إطار مفاوضات تهدف الاطلاع على النوايا ومدى الجدية وخاصة من الجانب التركي، علاوة على أن الرئيسين لم يلتقيا في زيارة عمل رسمية على أرض أي منهما أو على هامش محفل سياسي، أو حتى بترتيب مسبق بينهما، فلقاء القمة يجمع رئيسان أو أكثر تتمتع بلدانهم بعلاقات دبلوماسية كاملة.
وفي محاولة لقراءة الصورة التي جمعت بين الرئيسين “السيسي” و “إردوغان” نجدهما واقفين، أي أن الحديث لم يستغرق سوى دقائق معدودة عند هذا اللقاء العابر، فلم تظهر صورة تجمعهما في مكان استقبال مجهز طبقا للمراسم والبروتوكولات الرئاسية المعروفة. وبالرغم من تناثر آراء المحللين والمراقبين الذين أكدوا أن اللقاء سيكون خطوة تبدو ناجزة لإنهاء التوتر القائم بين مصر وتركيا، إلا أن هناك من الحسابات للبلدين ما يدفع للاتجاه نحو علاقات طبيعة كاملة أو البقاء على حالة الجمود أو العودة إلى المربع صفر.
وفي تعليقه على لقاء الرئيس السيسي لم يكن لإردوغان سوى مطلب وحيد وهو أن تبلغ مصر الدول التي لها مواقف ضد تركيا في منطقة شرق المتوسط في البحر الأبيض أن تركيا لا تريد إلا السلام، في إشارة إلى قبرص واليونان، حيث الخلاف الكبير بين اليونان وتركيا في الحق عن التنقيب عن الغاز والنفط في منطقة المياه الدولية في البحر الأبيض المتوسط، كذلك الخلافات المتفاقمة بينها عن التنقيب في بحر إيجه.
وبالرغم من مطلب تركيا الوحيد المتعلق بمنطقة شرق المتوسط، إلا أن مصر الأمر بالنسبة لها مختلف بكثير… فالقاهرة كانت حذرة جدا من دعوة “إردوغان” للمصالحة، فما زالت بلاده محتضنة لعدد من قيادات جماعة “الإخوان المسلمون” وكوادر إعلامية تبث هجوما ضاريا ضد الدولة ونظامها، إضافة إلى توغلها في التواجد في العمق الليبي والذي يعد نقطة تماس قوية للأمن القومي المصري، كما أن مصر رفضت بشكل صريح الاتفاق الأخير مع الحكومة الليبية (المنتهية ولايتها) بشأن التنقيب عن الغاز والنفط السواحل الليبية.
إذن، ما زالت هناك ملفات ذات أبعاد استراتيجية بين مصر وتركيا تحتاج إلى حسم قاطع تبنى عليه طبيعة العلاقات بين البلدين.
ويظن “إردوغان” أن ملف المصالحة بين بلاده ومصر يملكه طبقا لحساباته، حيث أعلن من قبل تأجيل هذه المصالحة لما بعد الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو 2023 والتي سيواجه فيها منفاسة شرسة من معارضيه، خاصة وأن المصالحة مع مصر ربما تفقده أصوات أكثرية مؤيدة لحزبه العدالة والتنمية (ذات المرجعية الإخوانية) وتذهب كأصوات احتجاجية ضده، فهو يرديد إمساك العصا من الوسط، حتى معرفة إلى أين سيكون المصير… فقد لعب على كل الأحبال بعد أن أوقف بعض القنوات الإخوانية في محاولة للتهدئة مع مصر، لكنه ترك البعض الذي مازال يبث سمومه ضد مصر من الأراضي التركية.
وفي الوقت نفسه، فإن القاهرة متريثة تماما في ملف المصالحة مع تركيا، مدركة مدى النفعية في السياسة التي يتعامل بها “إردوغان”.
ونظرا لهذا التحسب من كل طرف لم تخرج التصريحات الرسمية الصادرة من البلدين عن إطار التصريحات الدبلوماسية الفضفاضة المعهودة في تلك الحالات، فطبقا لبيان الرئاسة المصرية وصف العلاقات مع تركيا ب “العميقة”، وأن لقاء الرئيسين السيسي وإردوغان “بداية لتطوير العلاقات الثنائية بين الجانبين”.
ولا يبقى سوى الانتظار لما ستسفر عنه الأيام المقبلة في عودة العلاقات المصرية التركية وما يحويه هذا الملف من قضايا شائكة تحتاج إلى طريق طويل لطي صفحات الماضي وفتح صفحة جديدة.