مولودُ المغارة ومولودُ القصر

آخر تحديث : الجمعة 23 ديسمبر 2022 - 7:50 صباحًا
بقلم: جوزف الهاشم
بقلم: جوزف الهاشم

منذ أنْ وُلِـدَ في مغارة ، والبشارةُ الأولى أعلنها مجوسٌ يتحدَّرون من مملكة فارس ، ولا نـزال بعـد عشرين قرناً ويزيد ، ننتظر بشارة ثانية يعلنها المجوس.

ومنذ أنْ تكلّم في المهد ، وأبصرَ شـرَّ الإنسان في الأرض ، وسكان أورشليم يقاسونَ العذاب والجـوع والموت قـال : “إنّ نجاتَكُمْ تقترب” لوقا : (21 – 28) ، ولا نزال ننتظر تلك النجاة التي يبشُّـرنا بها لوقا.

وتلك الأورشليم راجمةُ الأنبياء والغارقةُ في المعاصي ، توارْثناها أجيالاً بعد أجيال مخضبّـةً بالإثـم والـدم ، واستمرّت البشرّية على وثنيّتها كأنّها مخلوقةٌ للآلهة التي ابتكرتها السلطة السياسية الكافرة.

السلطةُ التي يمثّلها هيرودس وهو يأمـر بقتل أطفال “بيت لحـم” مستهدفاً المسيح مخافَـة أنْ ينافسه على العرش بوصفه ملك اليهود ، هي السلطة نفسها اليوم تخوض معارك القتال : بين عرش اللـه وعرش هيرودس.

ومع أنّ المسيح قال : إنَّ مملكته ليست من هذا العالم ، فلا تـزال مملكته السماوية في صراعٍ مع المملكة الأرضية ، ولست أدري ما إذا كان الأخطل الصغير مصيباً في قولـه :

مثلَ المسيحِ تغالَوا في أَذيَّتهِ وأَلهَّوهُ ، ولكنْ بعدما صُلِبا

منذ أنْ تحوَّلتْ دولتُنا إلى رأس مريض ، لم نعرف أنّ الميلاد عندنا عيـدٌ ، ورأس السنة عيـد.

ثانيةٌ من ساعةٍ في نصف الليل ينفصلُ فيها الزمن ، فينصرم عـامٌ ويبزغ عـام ، والروزنامة لم تكنْ ورقاً نمـزّقه ، بـلْ هي محطّاتٌ من عمرنا يغلب عليها الشقاء والألم والكآبات.

كانت عندنا المواسمُ بواسم بنشوةِ الأعياد وفـرح الحياة ، وقد ذبلتْ بفعل سياسة الفساد والوطنية المهشَّمة.

رأس السنة ، تحتفل بـه البشرية ابتهاجاً ، تعويضاً مـن اقتناصِ سنـة من عمرها ، وهو عند الإنسانية المعذَّبة أشبـهُ باحتفال المآتـم.

ولكنْ ، لا حياة مع اليأس ، اليأسُ خطيئـةٌ دينيةٌ وأخلاقيةٌ وانتحارٌ أدبي تدريجي ، ولولا الرجاء لوقعت الإنسانية في مهاوي الفناء الوجودي ، ولا مفـرَّ للإنسان من أن يظـلَّ في صراعٍ مع قـوى الشـرِّ وسوداويَّة الزمان ليستحقَّ بشائر الحياة.

الرجاء في المسيحية والإسلام شرطُ الإيمان وأحـدُ أركان العبادة ، وهو الناموس الحتمي لحياة الأمـم.

حين تفقد الأمـم رجاءَها تنقطع الصلـة الحميمة بين الروحانيات والزمنيات كمثل من تشهدُهُ البشرية اليوم من فواجع ، فينقلب العالم الإنساني إلى عالم متوحِّش.

في القرن التاسع عشر ، عندما سيطرت شريعة الغـاب على شرعيّة الشرع ، أعلن الفيلسوف الإلماني “نيتشـه” مـوت اللـه ، معتبراً أنَّ اللـه لم يعـد يتمتَّـعُ بصحَّـةٍ جيّدة في ضمائر عباده الوثنيّـين.

من وحـي المناسبتين : ولادةِ إبـن المغارة وولادة إبـن القصور ، نعلِّـقُ الرجاء على المولود الإلهي لعلَّـهُ يشهر سوْطَـهُ في وجـهِ تجّـار الهيكل ، حتى لا تقترعَ أصواتُهم على ثيابـه وثيابنا ، وحتى لا يتحوَّل القصر إلى مغارةٍ للصوص.

*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.

رابط مختصر
2022-12-23
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر