على مدى الأشهر الثلاثة الأخيرة كانت القارة الأفريقية محط اهتمام على مائدة السياسة الدولية، بشكل كبير، حيث اهتمت قمة المناخ الدولية التي شهدتها مدينة شرم الشيخ في نوفمبر الماضي بتقديم مساعدات للدول الأفريقية المتضررة من التغيرات المناخية؛ بسبب نشاط الدول الصناعية الكبرى بالرغم من أن تلك الدول الأفريقية هي الأقل للانبعاثات الحرارية.
وفي ديسمبر الماضي استضافت العاصمة الأمريكية “واشنطن” أعمال القمة الأمريكية الأفريقية الثانية، والتي تعهد فيها الرئيس الأمريكي جو بايدن بتقديم 55 مليار دولار إلى دول القارة الأفريقية خلال السنوات الثلاثة المقبلة للمساهمة في التنمية الاقتصادية الأفريقية.
أما يناير الحالي فقد شهد زيارة مهمة لوزير الخارجية الصيني الجديد تشين جانج، بعد عشرة أيام فقط من تعيينه، وتأتي الزيارة في إطار مسلسل الصراع الدائر بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على الاستقطاب بالنفوذ في القارة الأفريقية؛ حيث أسندت الصين مهمة تقويض النفوذ الأمريكي في أفريقيا للوزير الجديد والملقب بـ”الذئب المقاتل”، والذي كان سفير بلاده لدى أمريكا قبل تعيينه في الثلاثين من ديسمبر المنصرم.
فقد توجه “جانج” في جولة أفريقية لمدة 8 أيام، بدأها في التاسع من يناير الجاري، زار فيها كل من مصر وإثيوبيا وأنجولا والجابون وبنين، واعتبر المراقبون أن تلك الدول اختيرت بعناية نظرا لموقعها الاستراتيجي سياسيا واقتصاديا في أفريقيا، فمصر هي الدولة الأكبر أفريقيا وعربيا وبها مقر جامعة الدول العربية، وإثوبيا بها مقر الاتحاد الأفريقي، أما أنجولا فلإعتبارها أكبر الدول المصدرة للنفط في أفريقيا وتصدرت القائمة في فترات تراجع النفط النيجيري، كما أنها أكبر شريك اقتصادي للصين في أفريقيا بحجم معاملات تجارية تجاوزت 17 مليار دولار، أما الجابون فهي دولة نفطية وفي ذات الوقت فهي أعلى دولة أفريقية لدخل الفرد كما تطل خليج غينيا الإستراتيجي، وعضو في المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا (إيكواس).. أما بنين البلد الصغير فهي تطل على خليج غينيا المجاور لنيجيريا من جهة الشرق ولدول الساحل من جهة الشمال وعضو في (إيكواس).
وبعد أن أنهى “جانج” جولته الأفريقية توجهت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين إلى إفريقيا، في جولة تستمر 11 يوما بدأتها في السابع عشر من يناير الجاري تشمل السنغال، وزامبيا، وجنوب أفريقيا.. وتأتي زيارة “يلين” لتقع في نفس أهداف الصراع المتبادل بين أمريكا والصين لتوطين أقدام النفوذ في القارة السمراء.
ومن المعروف أن هناك قطب ثالث في الصراع هو روسيا، وكان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قد قام بجولة أفريقية في صيف 2022 لمدة 5 أيام في الفترة من 24 إلى 28 أغسطس، شملت مصر وجنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا.
كما قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بجولة أفريقية بعد زيارة نظيره الروسي “لافروف” تعد الثانية منذ تسلمه منصبه في بداية عام 2021، وشملت الزيارة كينيا، ونيجيريا، والسنغال.
ويتضح من هذه الزيارات المتعاقبة للدول لثلاثة الكبرى أن هناك صراعا محموما على الفوز بالثروات الأفريقية في ظل التغيرات السياسية والاقتصادية التي يمر بها العالم مستغلين انحسار دور المستعمر القديم وتراجعه في القارة السمراء كفرنسا وبريطانيا.
فبعد أن ركزت أمريكا وجودها في أفريقيا عسكريا وأمنيا لمواجهة الإرهاب وتنظيماته في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001 ولم تلتفت إلى تقديم مساعدات اقتصادية وتنموية لأفريقيا، استغلت الصين هذا الاتجاه وتمكنت من إزاحة أمريكا وأوروبا وأصبحت الشريك التجاري الأول لأفريقيا، كما وقعت روسيا اتفاقات أمنية وعسكرية غير مسبوقة مع عدة دول أفريقية منها أفريقيا الوسطى في عام 2018، كما طلبت نيجيريا عقد اتفاقية عسكرية مع روسيا في عام 2021، علاوة على التواجد الأمني الروسي في مالي وليبيا.
ولكن، لماذا هذا الصراع المحموم على أفريقيا؟!
القارة الأفريقية تعد الأكبر عالميا من حيث الموارد الطبيعية، فهي تشكل 33% من إجمالي الموارد المتوفرة في العالم، كما أنها تحتوي على 70% من المعادن المهمة اللازمة للصناعات العالمية مثل اليورانيوم، والبلاتين، والنيكل، والألومينيوم، والكوبالت.. أيضا تمتلك 8% من احتياطات الوقود الأحفوري و12% من احتياطات الغاز الطبيعي عالميا، وتملك 65% من الأراضي الصالحة للزراعة على مستوى الكرة الأرضية، و10% من المياه العذبة المتجددة، ويشكل سكان أفريقيا 20% من سكان العالم، وبالرغم من كل تلك الثروات الطبيعية والبشرية الهائلة إلا أن الدول الأفريقية يعيش 40% من شعوبها تحت خط الفقر، وغير مسموح لهم بنقل أي صناعات أو تكنولوجيا متقدمة لتوطينها في بلادهم، ومازالت دول الاحتلال القديم تستنزف خيرات أفريقيا بسبب الفساد المستشري وغياب الحكم الرشيد في القارة السمراء.
وفي الوقت الذي أرادت فيه أمريكا تغيير استراتيجيتها لتتجه إلى تقديم المساعدات إلى أفريقيا في صورة دعم القطاعات التنموية والبنية التحتية وجدت أن الصين سبقتها وملأت الفراغ الذي تركته في الوقت الذي انهمكت فيه أمريكا لمحاربة الإرهاب في دول الساحل وجنوب الصحراء.
ومن العوامل التي ساعدت الصين في ذلك أنها لا تعلق مساعداتها على مسائل تتعلق بالشأن الداخلي للدول كقضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان كما تفعل أمريكا، فقد قدمت الصين خدماتها بشكل مباشر لتحصل على ما يؤمن مصالحها من الدول الأفريقية التي وطدت علاقاتها التجارية معها.
أيضا، فإن المساعدات الأمريكية المقدمة إلى أفريقيا لا تقدم في صورة أموال نقدية مباشرة، ولكن في صورة استثمارات من خلال شركات القطاع الخاص العملاقة في أمريكا، وتلك الشركات يصعب إقناعها بالدخول في السوق الأفريقي؛ نظرا لحالات التوتر والأوضاع الأمنية المنفلتة بسبب الحروب الأهلية والعمليات الإرهابية المستمرة حتى الآن، بخلاف الصين التي توجه استثمارات حكومية مباشرة إلى الدول الأفريقية وبشكل خاص في مجال البنية التحتية والمطارات وغيرها من الخدمات التي تعود بشكل مباشر على المواطن الأفريقي.
ومن هنا، فإن الوعد الأمريكي بتقديم 55 مليار دولار لجميع الدول الأفريقية (54 دولة) لمدة ثلاث سنوات فهو وعد لا يليق، ولا يمثل شيئا، لأكبر ثاني قارة في العالم والأغنى من حيث الموارد الطبيعية كما أوضحنا سلفا.. فأمريكا كما عهدناها لا تجيد سوى سياسة المراوغة والفوز بأكبر المكاسب ولهذا فهي لن تمنح أفريقيا ما يساعدها على النهوض وتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية.
ويبقى الصراع الدائر بين القوى الكبرى في تحجيم الآخر وكبح جماح نفوذه في القارة السمراء، كلما استطاع، للاستئثار بغنائم الدول الأفريقية.. وسينضم آخرين إلى حلبة الصراع، كل حسب حجمه، ولكن تبقى المؤشرات الراهنة في صالح المارد الصيني.