مثَل الإعلان عن عودة العلاقات السعودية الإيرانية، برعاية صينية، صفعة قوية على الوجه الأمريكي الذي لم يجد أمام تلك الصفقة سوى مباركتها وتأييدها في شكل لم يزد عن حدود الدبلوماسية، ويبقى ما في القلب راسخا في محله.
وبعد جولات من المفاوضات السرية بين المملكة السعودية والجمهورية الإيرانية، كان لكل من دولتي العراق وسلطنة عُمان دورا بارزا فيها من حيث الاستضافة أو الجولات المكوكية لإحداث التقارب بين الدولتين، تكللت تلك المفاوضات بجولة الأيام الخمسة الأخيرة في آخر مفاوضات سرية شهدتها العاصمة الصينية “بكين”؛ لينطلق الإعلان عن استئناف السعودية وإيران علاقتهما المنقطعة منذ عام 2016، والاتفاق على ترتيب تنفيذ الاتفاق وتبادل فتح السفارات في كلا البلدين في غضون شهرين منذ الإعلان عل توقيع الاتفاق في 10 مارس الجاري في “بكين”.
أما بخصوص ما اعتبره المراقبون بأن الاتفاق يمثل صفعة على الوجه الأمريكي فله أسباب عدة، أبرزها هو أن الاتفاق تم برعاية المنافس الأكبر، حاليا، لأمريكا سياسيا واقتصاديا وهي الصين، وهو ما طرح سؤالا بديهيا: هل ستبدأ السعودية رحلتها لفك الارتباط بينها وبين أمريكا التي ظلت الحليف الاستراتيجي للملكة على مر عقود طويلة، وهل ستكون الصين هي الحليف الجديد؟!
لا شك أنه من المبكر طرح إجابة قاطعة على مثل هذا السؤال، خاصة وأن دبلوماسية الإجابة حاضرة للتو عند طرح هذه الأسئلة على المستويات الرسمية، وفي نفس الوقت فإن إجابات المحللين والمراقبين لن تتمكن من الوصول إلى إجابات قاطعة إلا بعد مرور وقت كافٍ من تنفيذ الاتفاق ودراسة المتغيرات على أرض الواقع.
لكن هناك أسئلة طبيعية أخرى حول عودة العلاقات السعودية الإيرانية وتداعياتها على المدى القريب والمتوسط في حال التزم الطرفان بحسن النوايا واحترام الشؤون الداخلية لكل منهما بحسب نص الاتفاق، وهو ما يمثل الضامن لهذا الاتفاق.
أيضا، ما تأثير هذا الاتفاق على دول أخرى في المنطقة، وبالأخص مصر، وهل ستلحق باتفاق مماثل مع إيران في وقت قريب وبأي رعاية أو ضامن؟
ويبقى الأهم الذي يدور في ذهن المواطن العربي سؤاله عن التوقيت المُلِح الآن لعودة العلاقات وماذا ستسفيد منه أي الدولتين أو كلاهما معا؟
معروف أن هناك حالة عداء تاريخي بين السعودية وإيران منذ ثورة الخميني الإسلامية في عام 1979، بسبب ما عزمت عليه إيران وقتها من تصدير تلك الثورة إلى دول الجوار، وعلاوة على الخلاف السياسي بين البلدين إلا أن الخلاف العقدي “الطائفي” طغى على كل الخلافات بينهما؛ حيث السعودية دولة إسلامية سنية المذهب وإيران دولة إسلامية شيعية المذهب، وصار هذا الخلاف هو الأبرز بين الدولتين حتى اليوم، ولا يبقى ضامنا لعلاقة سوية بينهما سوى احترام سيادة كل دولة ومذهبها وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخر.
وعن الدوافع والمكاسب من إبرام هذا الاتفاق، نجد أن الطرف السعودي بعد أن ظل لأكثر من ثماني سنوات يقود تحالفا عربيا لمحاربة جماعة الحوثيين في اليمن المدعومة من إيران، دون نصر حقيقي وتكبده خسائر فادحة قاربت 100 مليار دولار أمريكي، فإن من شأن هذا الاتفاق تهدئة الأمور واستقراراها بما يضمن حفظ الأمن القومي السعودي واستقرار منطقة البحر الأحمر. أيضا، فإن الرعاية الصينية للاتفاق تضمن للسعودية شريكا مخلصا على الصعيدين السياسي والاقتصادي، حيث من سمات دولة الصين أنها شريك يحترم سياسات الدول الأخرى و لا تتجاوز حدود علاقاتها مع الدول الأخرى، على عكس أمريكا التي تدخل في علاقات معقدة ومتشابكة وتفرض سياساتها المهيمنة على كافة الأمور سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
ولا يخفى أن الصين أصبحت الشريك الاقتصادي الأول لدول الخليج وللسعودية على وجه الخصوص، حيث تأتي السعودية في المرتبة الأولى خليجيا في حجم التبادل التجاري مع الصين.
ولأن أمريكا بدأت تفقد نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، وانتهاج سياسات غير واضحة، فكان على السعودية أن تبحث عن مصالحها، خاصة وأن العالم تتغير فيه بوصلة القيادة ولم يعد تحركه قوة وحيدة كما كان في السابق من الجانب الأمريكي الذي ظل مهيمنا على العالم بمفرده منذ تفكيك الاتحاد السوفيتي.
وها هي الصين، اليوم، تزاخم المارد الأمريكي وتفرض قوتها على كافة الأصعدة، لتتمكن من ملء الفراغ الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، ولعل نجاحها في رعاية اتفاق عودة العلاقات السعودية الإيرانية دليلا دامغا على كونها قوة جديدة في المنطقة.
أما عن المكاسب الإيرانية، فمع توتر المشهد الداخلي والاحتجاجات الشعبية المتجددة منذ وفاة الطالبة الجامعية مهسا أميني في أحد أقسام الشرطة في طهران، والأوضاع الاقتصادية المتردية، ومع انسحاب أمريكا، في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الاتفاق النووي الشهير الذي وقعته إيران في صيف 2015 مع الدول الستة الكبرى (أمريكا، وروسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) برعاية أممية، ومع التهديد الأمريكي الإسرائيلي بضرب برنامجها النووي، فقد رأت إيران حماية إقليمية في هذا الاتفاق مع السعودية، ودولية بمقاربتها مع كل من روسيا والصين.
ومما يعتبر أنه صفعة أخرى على الوجه الأمريكي هو سقوط “الفزاعة الإيرانية” التي استخدمتها أمريكا لسنوات طويلة لإحداث القلق والخوف من إيران (وإن كان فيه جانب كبير من الحقيقة) ولعبت إسرائيل نفس الدور.. ولكن الآن بعد هذا التقارب، ما هي الفزاعة الجديدة التي يمكن أن تستخدمها أمريكا وإسرائيل لدول المنطقة؛ خاصة وأنهما كانا على وشك توجيه ضربة إلى إيران تستهدف برنامها النووي.
وهل من الممكن أن يعجل هذا الاتفاق بالضربة أم أن الفرصة قد فاتت؟ ويجب ألا نغفل أن انشغال أمريكا والغرب بالحرب الروسية الأوكرانية والتفرغ لحصار روسيا وخنقها أفسح الطريق لإبرام مثل هذا الاتفاق، وأن يكون للمملكة أكثر من حليف في عالم أصبح متعدد الأقطاب.
أما الاستفادة الأكبر هو ما ينتظر من انعكاس أكبر على علاقات السعودية مع دول لها علاقات وطيدة تم تفسيرها بأنها تحت الهيمنة الإيرانية وهي سوريا ولبنان.. فهل سيكون من آثار الاتفاق عودة العلاقات السعودية مع سوريا وبالتالي استعادة عضويتها في جامعة الدول العربية المجمدة منذ عام2011؟.. وهل ستلعب السعودية دورا وازنا في إنجاز الاستحقاق الرئاسي في لبنان؟
وهل سيكتب لهذا الاتفاق النجاح أم ستلعب الأقدار دورها وتأتي رياح تعصف بصموده أمام متغيرات جديدة؟.. النصف الأول من مايو المقبل سيطرح بوادر الإجابات عن تلك الأسئلة.