انتهت القمة العربية في دورتها الثانية والثلاثين والمعنونة ب “قمة جدة” نسبة إلى مكان انعقادها بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، ولم تكتسب هذه القمة أي أهمية نوعية أو نسبية سوى الزخم الإعلامي الذي يسبق انعقاد أي قمة عربية وأثناء انعقادها وبعد صدور البيان الختامي، وهو زخم إعلامي يصنعه الإعلاميون في سياق عملهم الطبيعي.
ولو كان هناك حدث فريد أو متغير حقيقي على الأرض جراء انعقاد القمم العربية “المهترئة”، خصوصا فيما بعد موجات أحداث “الربيع العربي” التي انطلقت في العام 2011 لكان الصدى الإعلامي أكثر زخما وضمن صناعة سياسية عربية تفرض إرادتها على الجميع، إلا أننا للأسف وكالمعتاد قرأنا بيانا ختاميا، أكثر من المتوقع، لا يتساوى مع تكلفة العناء والسفر لمتابعة صحفية لأعمال هذه القمة.
فما زالت بيانات القمة تفتتح بعبارات التأكيد، ويتوسطها عبارات التشديد والتنديد، وتنتهي بمطالبة أشياء (إن تبد لكم تسؤكم)!! لا أعرف كيف يصاغ بيان قمة ونحن في عام 2023 ويؤكد على أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للدول العربية في ظل ما يجرى من قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة ومحاولات تهويد القدس المستمرة!!
ولعل الأحداث الأخيرة “الاستفزازية” في القدس على يد مجموعة وزراء من حكومة الاحتلال أبرزهم العنصري إيتمار بن غفير، ووصول الأمر لإصدار قانون يجرم حمل العلم الفلسطيني في القدس وكل تجمع من 3 أشخاص يعد تجمهرا يجب محاسبته قانونا!!
هل مازلنا نمتلك وقتا كافيا لإعلان التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية؟!!!
أما بقية البيان الذي عبر عن غضب عربي لما يجرى في السودان من طرفي النزاع المتمثل في الجيش السوداني بقيادة قائده الفريق أول عبد الفتاح البرهان وبين الفريق محمد حمدان دقلو الشهير ب “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع، داعيا جلوسهما للمفاوضات لتهدئة الأمور وعودة للاستقرار، ونفس الأمر الذي تمناه البيان لدعم الجهود الرامية إلى التوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة اليمنية.
ولم يفت البيان الترحيب بعودة سوريا إلى عضوية جامعة الدول العربية بعد غياب تجاوز أثنى عشرة أعوام، كما بعث بيان القمة ببرقية إلى لبنان للإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية لانتظام عمل المؤسسات الدستورية وإقرار الإصلاحات المطلوبة لإخراج لبنان من أزمته.
أما ما يثير حفيظتك وتقف أمامه عجب واندهاش.. هو ما جاء في فقرات البيان من الرفض التام لتشكيل ميليشيات وجماعات مسلحة خارج نطاق الدولة.. كيف هذا وأن دولا عربية هي من ساعدت ومولت ودعمت تلك الميليشيات ضد الدولة السورية في بداية العمل على إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد في عام 2011 مع موجة أحداث ما عرف ب “الربيع العربي”؟!!
إن أهمية قمة جدة لم تكن في أهمية الموضوعات التي تم وضعها على موائد أعمالها، بل تكمن في أن المملكة العربية السعودية هي رئيس القمة لمدة عام، حيث اضطلعت “المملكة” بدور بارز عربي وإقليمي في السنوات الأخيرة، ولا نبالغ إذا قلنا إن تأثيرها امتد إلى المستوى الدولي.. ما عدا ذلك فهي قمة عادية، بل إنها “قمة على السريع”.
ومن ينظر إلى أهمية كبرى أو استراتيجية عربية لحضور الرئيس بشار الأسد ومشاركته في أعمال القمة وتحسب لقمة جدة السعودية، فالمحقق لهذا الأمر يرى أن الصدفة لعبت دورا لفوز قمة جدة بهذا “المتغير المحوري”؛ لأن قرار عودة سوريا إلى “الجامعة العربية” متخذ منذ فترة، وهنا نذكر بأول قمة عربية تستضيفها مصر بعد أحداث عام 2011 في مدينة شرم الشيخ وبرئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، هي من حرصت على مشاركة سوريا؛ حيث حرصت مصر على وضع مقعد سوريا وأمامه العلم السوري وليس علم الانتداب الفرنسي، ولم يحضر الرئيس الأسد وظل مقعد بلاده خاليا في دلالة رمزية واستراتيجية حرصت عليها مصر تصحيحا للأوضاع وللمسار العربي، فكانت مصر سباقة في جهودها لعودة سوريا إلى حاضنتها العربية، ومعها كل من الجزائر والعراق، وتلا هذه الجهود دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت أول دولة خليجية تعيد التمثيل الدبلوماسي الكامل مع سوريا.
وأخيرا، يأتي الحضور اللافت للرئيس الأوكراني فلاديمير ويلينسكي، والذي حل ضيف على قمة جدة بدعوة من المملكة السعودية، وهو الأمر الذي طاله تفسيرات عدة لم تتأكد حتى الآن.. فهل كانت الدعوة “ذاتية” لإحداث توازن نوعي في ظل مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد المدعوم من روسيا والتي كان لها الفضل مع إيران في دعمه وبقاء نظامه في مواجهة الجماعات المسلحة المنتفضة في وجه نظامه، خاصة وأن “الأسد” أعلن صراحة موقف بلاده المساند لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، أم كانت بضغوط من حلفاء غربيين على رأسهم أمريكا لمساومات لم تتضح بعد؟!
رغم ما قيل عن الترويج لقمة جدة، وما صاحبها من أقلام خليجية وصفتها بقمة المفاجآت معددين الظروف الاستثنائية التي تمر بها المنطقة والعالم من حولنا، ومبالغات في وجاهة الدعوة للرئيس الأوكراني لحضور القمة، إلا أنني أؤكد “بحق” أنها قمة مفاجآت في كل ما تناولته؛ لأن المفاجأة أنها لم تفاجئ الشعب العربي بما كان يحب أن يفاجأ به.