سألتُكَ يا رعاكَ اللـه : هل نحن أمام استحقاق رئاسي تاريخي ، أو أمام مسرحية هزلية نشاهدها يومياً كما الملهاة على الشاشات ، وقد أصبحتْ وأصبحنا معها نشكّل مهزلةً وطنيةً ودستوريةً أمام أنظار العالم … ؟
لقد تكشَّف هذا الإستحقاق الرئاسي عن إستحقاقٍ أشـدّ خطورةً هو الإستحقاق الوطني ، وكشفَ امتحاناً للإرادة الوطنية والولاء الوطني وتشكيكاً في الإيمان بلبنان الوطن .
يقول اللاّهوتِّيون : “لا يستطيع المشكِّكون إدراك حقيقة الإيمان إذا كانوا يجهلون معنى الوجود الإلهي .”
وبالمقارنة : لا يستطيع اللبنانيون إدراك حقيقة الإيمان بلبنان أذا كانوا يجهلون معنى وجود لبنان التاريخي ولبنان الصيغة الفريدة ، في هذا المعترك الأُمميّ المتخبِّـط بالغرائز المذهبية والتكفير الحضاري .
لعلنا نختصر لهم هذا التاريخ بشهادةٍ لعضوِ الأكاديمية الفرنسية المؤرّخ : “كبريال هانوتو” حين قال : “إذا لم يكن لبنان أعلى قِمّـةٍ في الجغرافيا فهو حكماً أعلى قِمّـةٍ في التاريخ .”
هذا اللبنان الذي كان أعلى قمـة في التاريخ ، رأيناه في القمـة العربية الأخيرة ، كأنه صبيٌ من الخصيان يتعلّق بأذيال العباءات في رمال الصحراء .
وهذا اللبنان هو الذي كان يتصدّر قمـةَ العالم العربي في المحافل الدولية وقد فوَّضتْ إليه الدول العربية جميعاً في 14 تشرين الثاني 1974 أن يمثِّلها في منظمة الأمـم المتحدة عبـرَ وفـدٍ برئاسة الرئيس سليمان فرنجية دفاعاً عن الحـق الفلسطيني .
وها هو لبنان اليوم بفضل المسؤولين الذين حكموهُ والسياسيّين الذين دمَّروهُ قد أصبح في حاجةٍ إلى مَـنْ يدافع عنـهُ في القمّـة العربية ، وأصبح وطناً مستوطناً في أوطانِ الآخرين وأصبح للآخرين فيـهِ أوطانُهُـمْ .
دولـةٌ سقطَتْ بكل مؤسَّساتها فأصبحت جماداً محطماً ، ولم يعُـدْ أحدٌ في لبنان يعيش فيه كإنسان ، وليس هناك مسؤولٌ واحد عن تدمير وطـنٍ كان أعلى قمـةٍ في التاريخ ، وعن قتل شعبٍ كان يهوى التحليق نحو القمـم .
بربِّكُمْ لا تخدِّروا عقولنا مـرةً بعد ، بتلك المعزوفة السخيفة التي إسمها التراكم ، بقدر ما كان تراكم الجهل والخفّـة والوصولية واللاَّمسؤولية والإرتزاق بالسلطة ، ورهـن التاج لإيفاءِ دَيْـنِ الكرسي .
إدوار الثالث ملك إنكلترا أَمـرَ بأن يُصْنعَ لـه تـاجٌ مرصَّع بالجواهر يضعه على رأسه اعتزازاً عندما يدخل باريس ، ولكنه ما لبث أن رهَـنَ هذا التاج ليدفع رواتب جيشهِ وإيفاء بعض ديون القصر .
إنّ هذا التفكّك البنيوي والقانوني والشرعي الذي مُنيَـتْ بـه الدولة ، أخذ ينعكس على الضوابط المسلكية التي تشكِّلُ تآلفـاً بين أعضاء المجتمع الواحد ، وكأن هناك تنافراً بين الثقافات وتخاصماً بين التقاليد والعادات بما هو تنوُّعٌ سلبي ، ما يجعل المجتمع الكامل مشتَّـتاً بين مجموعاتٍ متعاكسة تعرِّضُ التضامنَ الوطني للإنكماش البيئوي .
وقديماً : لم يستطع “أتاتورك” أن يوحِّـد تركيا ويرفعها إلى مصافِ الدول المدنية المتحضرة ، إلا بعدما ألغى السروال والطربوش اللَّذين كانا يشكلان تقليداً دينياً .
خلاصة القول : إنَّ الإستحقاق الرئاسي لـم يعُـدْ يعني إنتخابَ رئيسٍ للجمهورية ، بقدر ما يعني إنتخابَ الجمهورية ، وانتخابَ الدولة ، وانتخابَ وحـدة الوطن والشعب ، بل إنتخابَ النوابِ بالنوابِ أنفسهم .
أيْ : عندما يتحقَّـقُ الإستحقاق الوطني ، لا يعود هناك خلافٌ حـول من يرئس جمهورية لبنان .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.