“نور” التي لم تتول مسؤولية نفسها، أو تبدأ رحلتها في الحياة بعد تخرجها في الجامعة، أو تتقلد إحدى الوظائف المرموقة… هي فقط طالبة مجتهدة ومتفوقة في دراستها ويشهد لها الجميع بذلك في مدرستها، فقد حصلت على كأس التفوق في العام الدراسي الماضي… إلا أن “نور” لم توفق في امتحان مادة الجغرافيا، فجاءت درجاتها ضعيفة في امتحان الجغرافيا، وهنا كانت دهشة المُعلمة التي ظنت أن ظرفا ما ألم بنور أثر عليها.
وجهت مُعلمة الجغرافيا الكلام إلى “نور” قائلة: لقد كان السؤال الوحيد في الامتحان هو: ارسمي خريطة الوطن العربي وعيني عليها حدود كل قطر عربي. والعجيب أن “نور” رسمت الحدود الخارجية للوطن العربي بشكل دقيق، لكنها لم ترسم الحدود الداخلية بين الأقطار العربية. وهنا سألت مُعلمة الجغرافيا “نور”: هل كانت هناك ظروف منعتك من استذكار دروس الجغرافيا؟… لتجيب “نور”: لا، لم تمنعني أية ظروف، وقد ذاكرت دروسي جيدا. وهنا سألتها مديرة المدرسة: إذن لماذا لم تجيبي عن السؤال بطريقة صحيحة يا “نور”؟… لتجيب “نور”: إجابتي صحيحة. وهنا تدخلت المُعلمة قائلة باندهاش: وكيف تكونين على صواب، وأنت لم ترسمي الحدود بين الأقطار العربية؟
وهنا تجيب “نور” بحزن: وهل تعتقدين أن وضع الحدود بين الدول العربية يكون صوابا؟ أنا أستطيع الآن رسم هذه الحدود أمامك، وتناولت ورقة ورسمت عليها الحدود بين الدول العربية بطريقة صحيحة.
فكرت المُعلمة في كلام “نور”، وتخيلت الوطن العربي الكبير وهو بلا حدود بين أقطاره، وتخيلت الإنسان العربي وهو يتنقل بحرية بين الأقطار العربية.
وهنا أدركت المُعلمة أن “نور” لم ترسم حدودا بين الأقطار العربية، ليس، لأنها لم تكن تعرف كيف ترسمها، ولكن لأنها تتمنى أن تزول الحدود بين أجزاء الوطن العربي، وتصبح الدول العربية أمة عربية واحدة.
وانتهت المُعلمة من التفكير، ونظرت إلى نور، وقالت لها: أنت على حق. هذه القصة هي الدرس الأول في الوحدة الثانية لمنهج اللغة العربية لطلاب الصف الأول الإعدادي في مصر… قرأتها مع ابني “مروان” أثناء مراجعته لمواد الفصل الدراسي الثاني لهذا العام استعدادا للامتحانات؛ وقد وقفت أمام هذا الدرس متعجبا من هذه القصة وبطلتها “نور” التي لم تتفتح أعينها على حال أمتها العربية لترى ما حل به من أزمات ومشكلات تتجدد على مدار الساعة.
ولكن “نور” عبرت عما يجيش في صدر كل عربي، وعن مشروع ما زال هو الأمل لدى كل شعوب الدول العربية، وهو حلم القومية العربية الجامعة لكل شعوب أمة العرب تحت سماء عربية واحدة بلا حدود أو فواصل تفرق بينهم… فكان حلم الوحدة، سياسيا، واقتصاديا، وعسكريا، وثقافيا وحضاريا، إلا أن الموانع كانت ولا تزال مستمرة.
قرأت تلك القصة، قبل أسبوعين تقريبا، من اجتماع القمة العربية الذي شهدته مدينة جدة السعودية الشهر الماضي، وجال بخاطري لو أن “نور” حضرت تلك القمة، وكانت ضيف شرف، كما حل الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينيسكي ضيف شرف على قمة جدة… وسُمِحَ لها أن تتحدث؛ لتوجه حديثها إلى الحكام العرب تطالبهم بإزالة الحدود الداخلية بين الأقطار العربية والإبقاء على الحدود الخارجية فقط للعالم العربي الكبير، فماذا سيكون الرد أو المبرر الذي سيسوقه الحكام إلى “نور” تلك الطالبة التي استشعرت حلم “الوحدة العربية” دون توجيه من أحد أو ممارستها السياسة؟
ها هي “نور” قد أدركت معنى “الوحدة العربية” التي تحققها إزالة الفواصل والحدود بعد أن رسمت خريطة أمتها العربية دون حدود داخلية مكتفية بالحدود الخارجية.
ها هي “نور” قد أدركت مغزى عالم عربي بلا حدود، يتنقل فيه كل مواطن عربي بحرية، ويتمتع بكل الحقوق وعليه كل الواجبات… عالم يتوفر فيه حرية التنقل والعمل والتملك، وتبادل الخبرات والمهارات ومختلف الثقافات والموروثات الشعبية والعيش تحت مظلة آدمية كريمة تضمن لصاحبها جمال الحياة.
“نور” التي ظنت معلمتها أن مستواها العلمي تراجع، أو أن ظرفا أثر عليها، بسبب رسمها لخريطة العالم العربي بلا حدود داخلية… هي نفسها “نور” التي أجبرت معلمتها على تخيل العالم العربي بلا حدود داخلية بين أقطاره؛ لتقتنع معلمتها وتقر معترفة بأن تلميذتها على حق. “نور” إذا خاطبت الحكام العرب من قلب خريطتها، اللاحدودية، فستقول لهم: كفاكم بيانات الشجب والإدانة والاستنكار والمطالبات.. أعيدوا صياغة أمتكم، أولا، بإعادة صياغة تاريخها وجغرافيتها لتوطين “الوحدة” في وجدان كل عربي.
“نور” الطالبة التي لم تبلغ رشدها فهمت وأدركت معنى “الوحدة العربية” وسبيل تحقيقها، فأين أنتم يا حكامنا من “نور” وفكرها؟!!
هل ستصل رسالة “نور” للحكام العرب في قمتهم المقبلة ويكون حلمها مدرجا على طاولة اجتماعهم؟
هل سيقوم وزراء الخارجية العرب بإدراج خريطة العالم العربي- منزوعة الحدود الداخلية- كمشروع قرار يعتمده الحكام العرب بدءا لتنفيذ حلم ما زال يراود كل عربي؟
إن هذا الدرس لم يكن مجرد موضوع للمطالعة في منهج الصف الأول الإعدادي… لكنه ومضة في الطريق، ورسالة نور بعثتها الصغيرة “نور” نيابة عن كل إنسان عربي… فمتى تصل الرسالة؟