سنة 1860 ، وعلى أثـر فتنـةٍ طائفية دامية في لبنان ، تشكلَّتْ لجنـةٌ دولية تمثّل الـدول الخمس : فرنسا ، إنكلترا ، روسيا ، النمسا ، بروسيا ، فحـلَّ نظامُ المتصرفية محـلَّ القائمقاميَّتين ، والحاكمُ متصرّفٌ مسيحي أجنبي يخضع لسلطة الباب العالي .
واليوم ، يكرّر التاريخ نفسَهُ ، فتشكّلتْ لجنـة دولية تمثّل الدول الخمس : الولايات المتحدة ، فرنسا ، مصر ، السعودية ، قطـر ، على أثـر محنـة قاتلة أوقعتْ لبنان في مهاوي الإنهيار والدمار ، ولم تتوصل هذه الدول إلى اكتشاف حاكمٍ لبناني أو متصرّف مسيحي ، إلاّ إذا كان خاضعاً للباب العالي … ولا يزال نظام القائمقاميتين قائماً .
وبالرغم ، من أنّ لبنان في ظـلّ بروتوكول 1861 ، كان يتمتّع بنـوعٍ من الحكم الذاتي ، فقد كانت هناك ثورتان مارونيتان : ثورة قادها الزعيم يوسف كـرم ضـدّ الحكم الأجنبي ، وثورة الفلاّحين قادها طانيوس شاهين ضـدّ الإحتكار الإقطاعي .
ولبنان اليوم ، وطـنٌ بلا دولة ، ودولة بلا سيادة ، وجمهوية بلا رئيس ، وشعبٌ يلتهمُهُ الجـوع والنزوح … والمسؤولون نازحون ، فلا مسؤولية ، ولا ثورة ولا “كـرَم” ، ولا “شاهين” .
عندما يفقد لبنان مكانتَهُ التاريخية ، وصيغتَـهُ الفريدة ، ومستواهُ الإستشراقي ، ودورَهُ الحضاري والثقافي والجامعي والطبّي والإعلامي ، فلا يعود حاجةً عربية ودولية ، بل يصبح هيكلاً تاريخياً عقيماً .
ومع هذا ، ماذا تقول لنا اللجنة الدولية الخماسية …؟
تقول لنا ، كما يقول اللبنانيون : “التعجيل في إجراء الإنتخابات الرئاسية ، التأكيد على سيادة لبنان واستقلاله ، رئيس يجسّد النزاهة ، تنفيذ الإصلاحات الإقتصادية والقضائية ، الإلتزام باتفاق الطائف “… هذا ما يردّده المسؤولون اللبنانيون ويدعون إليه ، ونحن نغرق معهم في بحـرٍ من الثرثرة ، وليس هناك من شبكةٍ تلتقطُ من البحر سمكة .
أما التلويح بالقرارات الدولية والعقوبات ، فهذا نـوعٌ من التهويل بعصا الأعرج الذي لا يـرى من الحكمة أنْ يكسر عصاهُ على رأس غيره … ولا مـرة كانت العصا الدولية شبيهةً بعصا موسى التي تحوّلَتْ إلى أفعى لمواجهة أعمال السحر .
ويتساءلون : لماذا اللجنة الخماسية إستبعدتْ أو استأخرتْ موضوع الحوار بين القوى السياسية اللبنانية المتشاكسة …؟
تعرف اللجنة جيداً ، أنّ القوى السياسية منشغلةٌ بالملائكة الإناث والملائكة الذكور ، فيما السلطان محمد الفاتح يحاصر القسطنطينية وتنهار على يـده العاصمة البيزنطية بكل تراثها الحضاري التاريخي .
وتعرف أيضاً أنْ القيادات اللبنانية السياسية والحزبية والبرلمانية منقسمةٌ على ذاتها في انشقاقات محمومة ، وتعرف أكثر أن ثقافة الحوار ، قد تتحوّل عند بعضهم إلى شجار ، وتتحول عبارات الشجار إلى أحذية .
يقول الرئيس سليم الحص في كتابه : “عهد القرار والهوى – ص . 194 ” .
“لا يجتمع اللبنانيون حول طاولة حوار إلاّ لينقسموا فريقين : فريقاً لا يستطيع أن يُعطي ، وفريقاً لا يستطيع أن يأخذ ، ولا يلتقي الفريقان إلاَّ من خلال جسرٍ عربي مثلما كان اتفاق الطائف …”
العرب اليوم ، غير عرب الطائف ، والدول اليوم بالنسبة إلى لبنان ليست كما كانت عليه في الطائف ، ولبنان اليوم ليس كمثل ما كان ، والقيادات اليوم تختلف عن قيادات الأمس وقد أصبحت على الألسنة الدولية موضع سخريةٍ وتحقيرٍ وتأنيب .
إذاً … ماذا ننتظر بعد … ومَـنْ …؟
هل ننتظر أنْ يمـنَّ علينا الزمان بمتصرِّفٍ مسيحي يخضعُ لسلطة السلطان .؟
أو نفضِّل على سلطة الخضوع ، ما يُعرف بالشغور المفتوح أو الفراغ المفتوح ، حتى يفرجها ربُّـك بالرجاء الصالح .؟
نحن اليوم نعيش في شغورٍ مفتوح … وعشنا هذا الشغور على مـدى سنتين ونصف السنة قبل ولايـة العماد ميشال عـون ، فلم يكنْ الحكم الممنوح أفضل من الشغور المفتوح .
بل … لعل أخطر أسباب الشغور ما يفسِّره الشاعر بقولهِ :
إذا لم يكنْ للمرءِ في دولة امرِىءٍ نصيبٌ ولا حـظٌّ تمنّـى زوالَها .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.