إعلام البيضة أولا أم الدجاجة!

آخر تحديث : الأحد 30 يوليو 2023 - 2:25 مساءً
بقلم: إبراهيم الصياد
بقلم: إبراهيم الصياد

من ذكرياتي في جامعة القاهرة في السبعينيات من القرن الماضي أن نشاطنا الفكري آنذاك عندما كنا طلابا في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية كان يحتل اهتماماً كبيراً لدى معظمنا من خلال صحف الحائط والمؤتمرات والندوات وعبر الأسر الطلابية و جماعات النشاط المختلفة أما المذاكرة الحقيقية كانت تأتي في الشهر الأخير من العام الجامعي قبل الامتحانات !

وفي هذه الفترة المشار إليها خاصة قبل حرب اكتوبر 1973 كانت الجامعة تموج بتيارات سياسية عديدة متقاطعة الى حد الصراع احيانا من أقصى اليسار ماركسيون وشيوعيون أما الاشتراكيون ومنهم الناصريون والقوميون – كانوا الأكثر اعتدالا – إلى أقصى اليمين الليبراليون والجماعات الدينية المعتدلة منها والمتطرفة بعبارة أخرى عكست الحركة الطلابية بالجامعات بوضوح خاصة في جامعتي القاهرة وعين شمس حالة المجتمع بأكمله ومرحلة اللاسلم واللاحرب التي كنا نعيشها وسط ظروف حياتية قاسية وضاغطة !

وكنا نردد عبارة (فلان هذا سفسطائي ) أو نطلق عليه ( أنه ديموجوجي ) أو يجادل ( جدلا بيزنطيا ) !

استمدت هذه التعبيرات رواجها من طبيعة الدراسة في كلية الإقتصاد لاسيما في تخصص العلوم السياسية !

▪️الرجل السفساط:

على أي حال الأصل اللغوي لكلمة السفسطائية كلمة (صوفيا ). وباليونانية sophia وترجمتها بالعربية (الحكمة ) وتعبر عن توجه فكري كان موجودا في أثينا القديمة بالقرن الخامس الميلادي وفي الحقيقة كان له معنى يُقدر في حينه لأنه يكرس فكرة المُعلم الخطيب المفوه الذي يستخدم الحجة والبرهان في الدفاع عن فكرة معينة ! لكن في مرحلة لاحقة تعرضت المدرسة السفسطائية للانتقاد من مفكري اليونان بعد أن أُستخدم الأسلوب السُفسطائي في تبرير الخطأ فأصبح السفسطائيون هم من يستخدمون خطاب هذا المنهج في تحويل الباطل إلى حق والعكس أي إسباغ الشر على أفعال الخير !

▪️حوار الدهماء:

أما الديموجوجي هو الشخص المهيج للآخرين ويسعى لاجتذاب الناس إلى جانبه عن طريق الوعود الكاذبة والتملق وتشويه الحقائق ويؤكد كلامه مستندا إلى شتى فنون الكلام وضروبه وكذلك الأحداث، ولكنه لا يلجأ إلى البرهان أو المنطق مثل السفسطائي الذي يحرص على منطقية حديثه لأن من يلجأ إلى البرهان فهو في حالة من الوعي التي تبعث على التفكير و توقظ الحذر !

إن الكلام الديماجوجي مبسط ومتزندق أو متعصب ويعتمد على جهل سامعيه بالحقائق ونقول عنه الكلام المُرسل صاحب الصوت العالي ! والأصل اللغوي لكلمة ديماجوجي يوناني وتنقسم إلى قسمين ( ديموس وجوجيه) أي حوار أو عمل العامه او دعوني اقول الدهماء من الشعب الذين يطلق عليهم أيضا لفظ مهذب العوام !

بعبارة أخرى إن الحوار الديماجوجي ليس حوارا نخبويا يتعلق بطبقة المثقفين لكننا نجده آتٍ من قاع المجتمع ولهذا لا يُستخدم في الدراسات المتخصصة المعتمدة على المنهج العلمي في البحث ورغم هذا قد يلجأ بعض النخب للديماجوجية وهو ما يطلق عليه مجتمع الرويبضة و سئل الرسول محمد صل الله عليه وسلم من هو الرويبضة ؟ قال: ( رجل تافه يتكلم في أمر العامة ) وعلى هذا النحو إن الرويبضة يكذبون الصادقين ويصدقون الكاذبين !

▪️الجدل البيزنطي:

أما الجدل البيزنطي هو نقاش لا طائل منه ، يتناقش فيه طرفان دون أن يقنع أحدهما الآخر، ودون أن يتنازل كلاهما عن وجهة نظره، مما قد يؤدي إلى اختلال في التوازن الفكري لدى أحد الطرفين، أو ربما كليهما وموضوعاته لانهائية مثل أيهما أولا البيضة أم الدجاجة !

ويُنسب هذا الجدل إلى بيزنطة ـ عاصمة الإمبراطورية البيزنطية ـ التي عُرفت أيضًا بالقسطنطينية ويجدر الذكر أن البيزنطيين في أوروبا الغربية تمت الإشارة إليهم لأول مرة بهذا الاسم في عام 1557 بعد الميلاد في كتاب ‘Corpus Historia Byzantia’ للمؤرخ الألماني جيروموس وولف ، وكان المصطلح الذي استخدمه المؤرخ الألماني   بيزنطة وهو اسم لمدينة القسطنطينية وقبل مدينة بيزنطة كانت عاصمة الإمبراطور الروماني قسطنطين الذي أطلق عليها اسم القسطنطينية!

▪️ بيت القصيد:

وأصل إلى بيت القصيد أكاد ألمس اليوم من خلال كتابات البعض وحوارتهم عبر وسائل الإعلام التقليدية والإعلام البديل مثل مواقع الإعلام الإجتماعي أننا عدنا 1500 سنة إلى الوراء أي أصبحنا وسط جو سفسطائي يصور الباطل حقا ويُمارس فيه نوع من الديماجوجية صاحبة الصوت العالي بلا حجة أو منطق وتقوم على جدل بيزنطي يضيّع الجهد والوقت في البحث (من جاء في البداية البيضة أم الدجاجة !) ويسمي البعض هذا ب ( الهرتلة)!

وهذه أمور صدقوني لا يقبلها العقل ولا تتفق مع المنطق لكنها شئنا أم أبينا موجوده تدفعنا من دائرة مفرغة إلى دائرة آخرى في ظل غياب الوعي وأحيانا كثيرة الضمير !

ولهذا إيقاظ الوعي والضمير يعد النهج الحق نحو الخروج إلى عالم تنفرج فيه الأمور وتنصلح الاحوال وفي مقدمتها الإعلام قديمه قبل جديده !

*كاتب المقال: رئيس قطاع الأخبار الأسبق بالتليفزيون المصري.

رابط مختصر
2023-07-30
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر