ماذا حدث في النيجر، ولماذا، ولماذا هذا الرفض المستميت من فرنسا لرفضها هذا العزل ومطالبتها بإعادة الرئيس محمد بازوم إلى السلطة لدرجة تهديدها بعمل عسكري، ولماذا سارعت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إكواس” رافضة عزل “بازوم” وسارت على نهج فرنسا؟!!..وإلى أين مآلات الأحداث في تلك الدولة الأفريقية الشاسعة مساحة، الغنية موارد، الفقيرة ناسا؟
كل هذه الأسئلة وغيرها مازالت حتى الآن تجول بخاطر المتابعين لحادث عزل رئيس النيجر محمد بازوم، في السادس والعشرين من شهر يوليو الماضي، على يد رئيس الحرس الجمهوري الجنرال عبد الرحمن تشياني ورفاقه.
فقد فوجئ العالم صبيحة يوم الأربعاء ٢٦ يوليو ٢٠٢٣، بخبر انقلاب عسكري في النيجر يقوده رئيس الحرس الجمهوري الجنرال عبد الرحمن تشياني، ولم تكن تملك كل وكالات الأنباء والمحطات التليفزيونية أي تفاصيل أو معلومات وافية عن هذا الانقلاب وأسبابه إلا بإذاعته كخبر عاجل؛ إلى أن كلل حادث العزل بنجاح ليعلن قادة العزل في بيان عبر التليفزيون الرسمي للدولة، والذي أذاعه العقيد في القوات الجوية أمادو عبد الرحمن، وليكشف بيان العسكريين الذين نفذوا عملية عزل “بازوم” هو اضطراب الأوضاع الأمنية وتردي الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في البلاد؛ مما دفعهم إلى عزل “بازوم” وتشكيل ما يعرف بالمجلس الوطني لحماية الوطن والذي يرأسه الجنرال عبد الحمن تشياني.
ولكن يبقى تساؤلا مهما أمام عملية الإطاحة بالرئيس محمد بازوم والذي لم يقضي في منصبه سوى عامين وثلاثة أشهر من مدته الدستورية (5 سنوات)، وهو: هل ما حدث انقلاب أم تصحيح مسار؟
والإجابة لن تكون حاسمة؛ إذ أن المشهد به أكثر من صورة، وكل صورة تعد إجابة للسؤال. فعند البحث عن أسباب عزل بـ”بازوم” وفقا لبيان العسكريين المنفذين للعزل سنجد الأمر شأنا داخليا وأن ما حدث إنما لمصلحة شعب النيجر لإنهاء ما وصفه العسكريين بانفلات أمني لم يستطع نظام “بازوم” التصدي له، كذلك تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها المواطن النيجري، ولعل هذا السبب يضفي منطقية هائلة وشرعية كبيرة للتظاهرات الشعبية التي خرجت مؤيدة لقادة العزل والمجلس العسكري؛ وهنا فالوضع لا يطلق عليه انقلابا، إنما عزل جاء استجابة لنداء شعبي أو لتصحيح مسار قام به الجيش نيابة عن الشعب، وما يؤكد شرعيته هو التأييد الشعبي الذي رأينا صوره في مختلف محطات التليفزيون مواقع الأخبار.
أما إذا كان الأمر صراعا على سلطة فيكون انقلابا، وأيضا سيكون للشعب رأيا فيما يحدث إما بالتأييد أو الرفض.
ولكن هناك أسبابا أخرى كشفت صراعا مكتوما بين “بازوم” وبين رئيس حرسه “تشياني” المعروف بولائه للرئيس السابق محمدو يوسفو، وأن بقاء “تشياني” في منصبه كان مقيدا لبازوم وجعله تحت سيطرة وتوجهات “تشياني”؛ مما دفع “بازوم” إلى التفكير في التخلص من “تشياني” في حركة تغييرات تطال الجيش والحرس الجمهوري، إلا أن “تشياني” لم يمهل “بازوم” الفرصة وسبق هو وضرب ضرتبه وأعد مع رفاقه خطة عزل “بازوم” لتكلل بالنجاح في 48 ساعة.
أيضا، من ضمن الأسباب هي الأصول العربية التي ينحدر منها “بازوم”، حيث أنه من قبيلة سليمان الليبية ويعد من أقلية إثنية في النيجر، وسعت المعارضة لشطب ترشحه رئيسا إلا أن المحكمة الدستورية رفضت طلب المعارضة.
ومن الأسباب التي طرحت هو اتهام “بازوم” بالعمالة لفرنسا والغرب، كما هناك احتمال لوجود دعم إقليمي لعزل “بازوم”.
ولا ننسى أن “بازوم” تعرض لمحاولتي انقلاب سابقتين في عامي 2021 و2022 حيث يتعرض لمعارضة قوية من أحزاب وفصائل وقيادات عسكرية.. والمفارقة أن من تصدى للانقلاب على “بازوم” هو الجنرال عبد الرحمن تشياني الذي نفذ انقلاب 2023.
ولكن ما طرح علامات تعجب هو موقف فرنسا التي جن جنونها بمجرد عزل “بازوم”، فلم يهدأ لها بال، لدرجة أن تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصلت إلى حد التهديد بعمل عسكري لإعادة “بازوم” إلى منصبه.. واستطاعت فرنسا أن تحشد موقفا دوليا مؤيدا لها، وفي البداية كانت أمريكا تتحدث بنبرة قوية إلا أنها تراجعت ولجأت إلى الحلول الدبلوماسية ولم تستخدم وصف “الانقلاب” كما يحدث من فرنسا والقوى الأخرى. وهنا، لا مجال للشك في العلاقة القوية بين الرئيس محمد بازوم وفرنسا؛ حيث وصفت العلاقة بأن “بازوم” هو الحليف الاستراتيجي لفرنسا في منطقة غرب أفريقيا وخاصة في هذا التوقيت بعد طرد فرنسا من مالي وبوركينا فاسو.
وبالبحث عن سر النفوذ الذي تتمتع به فرنسا، فهو نفوذ قديم، في النيجر وهو ما يسهله أي رئيس سواء “بازوم” أو غيره، فعلى الفور تكون كلمة السر هي “اليورانيوم”، فالنيجر تملك أكبر احتياطي عالمي من عنصر اليورانيوم الذي يستخدم في توليد الطاقة وصناعة الأسلحة النووية، كما أنها سابع أكبر مورد لليورانيوم في العالم. وتعتمد فرنسا على النيجر اعتمادا كبيرا لا يمكن التفريط فيه بسهولة، حيث تحتاج فرنسا سنويا إلى 7800 طن من اليورانيوم لتشغيل 56 مفاعلا نوويا في 18 محطة نووية؛ ما دفع فرنسا لاستيراد اليورانيوم على مدى 50 عاما من النيجر، كما تقوم شركات فرنسية بالتنقيب عن العنصر النفيس.
إذن، انتفاض فرنسا من أجل مصالحها وليس من عيون “بازوم” أو شعب النيجر الذي قطعت عنه إمدادات ومساعدات مالية لحين عودة “بازوم”. وهنا السؤال، ماذا قدمت فرنسا المحتل السابق للنيجر من خدمات أو مظاهر تقدم ورخاء بعد استقلاله في عام 1960 سوى الاستحواذ على عنصر اليورانيوم الخام (بأسعار زهيدة) الذي ينير فرنسا ليلا ونهارا لتبقى النيجر غارقة في ظلام الجهل والمرض والفقر؟!! أما الموقف الأكثر غرابة هو موقف المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إكواس” والتي دعمت موقف فرنسا، حيث هددت “إكواس” بعمل عسكري ضد المجلس العسكري في النيجر لإعادة “بازوم” إلى منصبه، إلا أن الرد جاء قويا وحاسما من المجلس العسكري بجاهزيتهم للدفاع سيادة بلدهم، ودعمهم في ذلك الجارتين مالي وبوركينا فاسو واللتان اعتبرتا أن أي تدخل عسكري ضد النيجر يعد بمثابة إعلان حرب عليهما.
وهنا تتعقد الأمور وتتراجع “إكواس” عن الخيار العسكري والذي اتضح أنه لم يكن سوى تهديد أو بالون اختبار.
وبتصعيد الأمور من قبل فرنسا و”إكواس” جاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن ووجه المجلس العسكري تهمة الخيانة العظمى للرئيس المعزول محمد بازوم، وتصل عقوبتها إلى الإعدام، وأغلب الظن أنها ورقة ضغط رابحة في يد المجلس العسكري في محاولة منه إلى تخفيف الضغط عليه من قبل المجتمع الدولي لحين استتباب الأمور وتحديد بوصلتها. وأخيرا، فإن ما أطلق عليه الانقلاب العسكري على السلطة الشرعية في النيجر يبقى شأنا داخليا لدولة النيجر، ولا لأحد أن يملي على دولة ذات سيادة قرارا لا يصب إلا في مصلحة هذا المتدخل، خاصة وأن الرئيس المعزول محمد بازوم يلقى معاملة كريمة ولم يطاله أي سوء، كما أنه متواصل مع العالم الخارجي ويجري اتصالاته بحرية كاملة، ويقوم طبيبه الخاص بزيارته، وطلباته تلبى من قبل محتجزيه.
أما السيناريو القادم فسيكون الأكثر تشويقا.. فهل ستظهر روسيا بشكل علني بعد فترة من الوقت لتستكمل إزاحة “الديك الفرنسي” من المشهد، نهائيا، في النيجر مستعينة بمجموعتها الخاصة “فاجنر”؟.. خاصة وأن تظاهرات شعبية في النيجر مؤيدة للمجلس العسكري وعزل “بازوم” قد رفعت أعلام روسيا بجانب أعلام النيجر وعبارات تأييد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
هل ستكون النيجر مسرحا أفريقيا جديدا لصراع “الدب الروسي” و”الديك الفرنسي”؟!.. وهل فعلا لروسيا يد فيما يحدث في النيجر؟ الأيام المقبلة ستحمل الإجابة.