كانت وثائق ثورة عبدالناصر عديدة من خطب وتصريحات ومعاهدات ووثائق مهمة ..لعل أبرزها وأهمها ثلاث (: فلسفة الثورة – الميثاق الوطني – بيان 30 مارس ..).ولاننا في مقام البحث عن الاسرار المؤثرة والمخفي من الحقائق ..أو ما أسميناه ب(شذرات الذهب )في ذكري يوم ميلاد عبدالناصر (15 يناير 1918) فأن ما إحتوته وثيقة ( فلسفة الثورة ) يعد لدينا هو الاهم والاجمل ..لاسباب عدة ذكرنا بعضها في الحلقة السابقة من هذة الدراسة ..ونضيف اليها أنها كانت ألوثيقة الاقرب لفكر وعقل الشاب الذي قام بالثورة والذي لم يكن عمره قد تجاوز حين كتب هذة الوثيقة الصادرة عام 1954 ال36 عاما ..وهو ذروة الشباب والوعي المبكر ؛جمال عبدالناصر ….لقد كان يناجي نفسه حين كتب عن وطنه وأحلام ثورته في هذا الكتيب قليل الصفحات عظيم القيمة والدور التاريخي ..وما نقدمه هنا ليس هو ما ركز عليه (المؤرخون ) عندما تناولوا كتاب (فلسفة الثورة ) وقصروه فقط علي حديث الانتماء الي الدوائر الثلاث (العربية والاسلامية والافريقية ) وأفردوا لها الاف الصفحات في التحليل والتأويل لفكر وسياسات عبدالناصر القومية والاسلامية اللاحقة في سنوات حكمه الثمانية عشر (1952-1970) *لكن القارئ لوثيقة (فلسفة الثورة )..يجد أفكارا وقيما وحكايات جميلة موحية ومفاهيم آخري تعد بمثابة (شذرات من الذهب ) لم يعطيها (المؤرخون ) حقها الكافي من التحقيق والتحليل و..وهذا ما سنحاوله هنا.
***********************
في ثنايا كتاب (فلسفة الثورة ) حكايات ووقائع تاريخية مهمة ومجهولة في الوقت ذاته ,,أستشهد بها جمال عبدالناصر ..ليدلل علي فكرة أو قضية أو هدف جديد لثورته ؛ثورة يوليو 1952 ..وهي حكايات ذات دلالة غاية في الاهمية ولكن غالب المؤرخين للثورة لم يوردوها في (تأريهم ) لثورة عبدالناصر ولمنهجه في الحكم وإدارة الخلافات السياسية ..ومن تلك الحكايا المهمة والتي استدل بها علي رفضه ل(طريق الاغتيال الفردي ) من أجل إصلاح حال البلاد وتغييرها ..لقد رأي أن الطريق غير ذلك ..الطريق لا يتم ولا ينبغي له عبر( الاغتيال ) بل عبر الثورة الاصلاحية الشاملة والمتراكمة الخطوات ولندع عبدالناصر يحكي ويؤكد ويكشف:
(في فترة من حياتي كانت الحماسة هي العمل الإيجابي للثورة كما كنت أظن في تقديري . ثم تغير مثلي الأعلى في العمل الإيجابي و أصبحت أرى أنه لا يكفي أن تضج أعصابي وحدي بالحماسة ، وإنما على أن أنقل حاستي كي تضج بها أعصاب الآخرين..
وفي تلك الأيام قدت مظاهرات في مدرسة النهضة ، وصرخت من أعماقي بطلب الاستقلال التام ، وصرخ ورائي كثيرون .. ولكن صرخنا ضاع هباءً بددته الرياح أصداء واهنةً لا تحرك الجبال و لا تحطم الصخور.
ثم أصبح العمل الإيجابي في رأي أن يجتمع كل زعماء مصر ليتحدوا على كلمة واحدة ، وطافت جموعنا الهاتفة الثائرة ببيوتهم واحداً واحداً تطلب إليهم باسم شباب مصر أن يجتمعوا على كلمة واحدة .. ولكن اتحادهم على كلمة واحدة كان فجيعة لإيماني . فإن الكلمة الواحدة التي اجتمعوا عليها كانت معاهدة سنة)1936.
************
ثم ينتقل “عبدالناصر” إلي منهج الاغتيالات السياسية وكيف رفضه بعد تجربة مريرة قام بها (جاءت الحرب العالمية الثانية و ما سبقها بقليل على شبابنا فألهبته و أشاعت النار في خلجاتهم فبدأ اتجاهنا ، اتجاه جيل بأكمله يسير إلى العنف.
وأعترف – ولعل النائب العام لا يؤخذني بهذا الاعتراف- إن الاغتيالات السياسية توهجت في خيالي المشتعل في تلك الفترة على أنها العمل الإيجابي الذي لا مفر من الإقدام عليه إذ كان يجب أن ننقذ مستقبل وطننا .
وفكرت في اغتيال كثيرين وجدت أنهم العقبات التي تقف بين وطننا وبين مستقبله , ورحت أفند جرائمهم , وأضع نفسي موضع الحكم على أعمالهم , وعلى الأضرار التي ألحقها بهذا الوطن ، ثم أشفع ذلك كله بالحكم الذي يجب أن يصدر عليهم . وفكرت في اغتيال الملك السابق وبعض رجاله الذين كانوا يعبثون بمقدساتنا . ولم أكن وحدي في هذا التفكير . ولما جلست مع غيري انتقل بنا التفكير إلى التدبير . وما أكثر الخطط التي رسمتها في تلك الأيام ، وما أكثر الليالي التي سهرتها ، أعد العدة للأعمال الإيجابية المنتظرة . كانت حياتنا في تلك الفترة كأنها قصة بوليسية مثيرة).
ثم يكشف عبدالناصر في فلسفة الثورة عن أسرار الاغتيالات التي قام بها ثم رفضها تماما بعد ذلك كأسلوب من أساليب العمل السياسي الثوري فنجده يعترف-وسأورد إعترافه كاملا لأهميته التاريخية لنا جميعا سياسين ومثقفين – : (كانت لنا أسرار هائلة ، وكانت لنا رموز ، وكنا نتستر بالظلام ، وكنا نرص المسدسات بجوار القنابل ، وكانت طلقات الرصاص هي الأمل الذي نحلم به !.
وقمنا بمحاولات كثيرة على هذا الاتجاه ، ومازالت أذكر حتى اليوم انفعالاتنا ومشاعرنا ونحن نندفع في الطريق إلى نهايته.
والحق أنني لم أكن في أعماقي مستريحاً إلى تصور العنف على أنه العمل الإيجابي الذي يتعين علينا أن ننقذ به مستقبل وطننا.
كانت في نفسي حيرة , تمتزج فيها عوامل متشابكة ، عوامل من الوطنية ومن الدين ، ومن الرحمة ومن القسوة ، ومن الإيمان ولم ومن الشك ، ومن العلم ومن الجهل … ورويداً رويداً وجدت فكرت الاغتيالات السياسية التي توهجت في خيالي ، تخبو جذوتها وتفقد قيمتها في قلبي كتحقيق للعمل الإيجابي المنتظر ..
وأذكر ليلة حاسمة في مجرى أفكاري وأحلامي في هذا الاتجاه , كنا قد أعددنا العدة للعمل ز و اخترنا واحداً قلنا أنه يجب أن يزول من الطريق.
ودرسنا ظروف حياة هذا الواحد ووضعنا الخطة بالتفاصيل . وكانت الخطة أن نطلق الرصاص عليه وهو عائد إلى بيته في الليل.
ورتبا فرقة الهجوم التي تتولى إطلاق النار , ورتبنا فرقة الحراسة التي تحمي فرقة الهجوم , ورتبنا فرقة تنظيم الإفلات إلى النجاة بعد تنفيذ العملية بنجاح . وجاءت الليلة الموعودة وخرجت بنفسي مع جماعة التنفيذ. وسار كل شئ طبقاَ كما تصورناه.. كان المسرح خالياً كما توقعنا ، وكمنت الفرق في أماكنها التي حددت لها ، اقبل الواحد الذي كان يجب أن يزول ، وانطلق نحوه الرصاص .. وانسحبت فرقة التنفيذ ، وغطت انسحابها فرقة الحراسة ، وبدأت عملية الإفلات إلى النجاة ، وأدرت محرك سيارتي و انطلقت أغادر المسرح الذي شهد عملنا الإيجابي الذي رتبناه . وفجأة دوت في سمعي أصوات صريخ و عويل ، ولوعة امرأة ورعب طفل ، ثم استغاثة متصلة محمومة . وكنت غارقاً في مجموعة من الانفعالات الثائرة ، والسيارة تندفع بي مسرعة . ثم أدركت شيئاً عجيباً. كانت الأصوات مازالت تمزق سمعي . الصراخ و العويل والولولة والاستغاثة المحمومة . لقد كنت بعدت عن المسرح بأكثر مما يمكن أن يسري الصوت ، ومع ذلك بدأ ذلك كله يلاحقني و يطاردني . ووصلت إلى بيتي ، واستلقيت على فراشي ، وفي عقلي حمى وفي قلبي وضميري غليان متصل . وكانت أصوات الصريخ و العويل و الولولة والاستغاثة مازالت تطرق سمعي . ولم انم طوال الليل … بقيت مستلقياً على فراشي في الظلام ، أشعل سيجارة وراء سيجارة ، وأسرح مع الخواطر الثائرة ، ثم تتبدد كل خواطري على الأصوات التي تلاحقني . *أكنت على حق ؟ . وأقول لنفسي في يقين : – دوافعي كانت من أجل وطني ! *أكانت تلك وسيلة لا مفر منها ؟. وأقول لنفسي في شك : – ماذا كان في استطاعتنا أن نفعل ؟. *أيمكن حقاً أن يتغير مستقبل بلدنا إذا خلصناه من هذا الواحد أو من غيره ، أم المسألة أعمق من هذا ؟. وأقول لنفسي في حيرة : – أكاد أحس أن المسألة أعمق …. *إننا نحلم بمجد أمة ، فما هو الأهم : أيمضي من يجب أن يمضي , أم يجئ من يجب أن يجئ ؟ وأقول لنفسي وإشعاعات من النور تتسرب بين الخواطر المزدحمة . – بل المهم أن يجئ من يجب أن يجئ …إننا نحلم بمجد أمة … ويجب أن يبنى هذا المجد !. وأقول لنفسي ومازلت أتقلب في فراشي في الغرفة التي ملأها الدخان و تكاثفت فيها الانفعالات : – وإذن ؟ – أسمع. هاتفاً يرد علي : – وإذن ماذا ؟ – وأقول لنفسي في يقين هذه المرة : – إذن يجب أن يتغير طريقنا…. ليس ذلك هو العمل الإيجابي الذي يجب أن نتجه إليه.. المسألة أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد أغوارا.
وأحس براحة نفسية صافية ، ولكن الصفاء ما يلبث أن تمزقه هو الآخر أصوات الصراخ والعويل والولولة و الاستغاثة ، تلك التي مازالت أصدائها ترن في أعماقي ؟. ووجدت نفسي أقول فجأة : -ليته لا يموت !. وكان غريباً أن يطلع علي الفجر وأنا أتمنى الحياة للواحد الذي تمنيت له الموت في المساء !. وهرعت في لهفة إلى إحدى صحف الصباح …و أسعدني أن الرجل الذي دبرت اغتياله …قد كتبت له النجاة) * هكذا يعترف الزعيم في فلسفته ..ويندم علي منهج الاغتيال السياسي كحل لمشكلات الوطن ويري أنه ليس الطريق الايجابي الصحيح للثورة بل ثمة طرق آخري أفضل وأجمل.
****************
وتتعدد الأفكار والأسرار وتتصادم المشاعر مع حقائق الوطن المعقدة ويبقي شعور عبدالناصر في نشدان (العمل الايجابي للتغير )قائما وثابتا وأكثر شمولا ..وهو نصا ما قالته كلماته في الصفحات والشذرات الذهبية المجولة في (فلسفته للثورة ) والتي تقول (منذ ذلك الوقت بدأ تفكيرنا الحقيقي في شئ أعمق جذوراً وأكثر خطورة وأبعد أغواراً . وبدأنا نرسم الخطوة الأولى في الصورة التي تحققت مساء 23 يوليو ، ثورة منبعثة من قلب الشعب , حاملة لأمانيه , مكملة لنفس الخطوات التي خطاها من قبل على طريق ) (ولحديث الشذرات بقية ).
*كاتب المقال: كاتب صحفي وباحث ومدير مركز يافا للدراسات والبحوث.