كان جمال عبدالناصر مؤمنا بفلسطين ؛قضية وأرض ..وكانت لتجربة مشاركته في حرب 1948 ومحاصرته في (الفالوجا ) تأثيرا كبيرا في رؤيته ومواقفه اللاحقة وإنحيازاته التاريخية وحروبه الكبري ضد العدوان الاسرائيلي في 1956 و1967 وحرب الاستنزاف (1967-1970) .. ولان كتاب ووثيقة فلسفة الثورة كانت هي الاساس الذي عليه بنيت الرؤية الكاملة والمواقف المؤثرة ..لذا من المهم ونحن نحتفل بيوم ميلاد عبدالناصر(15 يناير1918) ؛أن نورد عضا من تلك الافكار المؤسسة للرؤية والدافعة للفعل والخالقة للسياسات التي وقعت بعد ثورة عبدالناصر وبعد نشر وثيقة فلسفة الثورة عام 1954 .زفماذا عنها؟ ************************ كانت بواكير الانحياز لفلسطين وقضيتها العادلة كامنة في تاريخ وقلب اللشاب (جمال عبدالناصر ) ..كل ما تركه لنا من تراث فكري وسياسي ووثائقي يؤكد تلك الحقيقة الثابتة والناصعة .. إلا أن لفلسفة الثورة مذاق خاص حين يذكر فيها عبدالناصر تلك الحقيقة ويؤطرها بالابعاد السياسية والتاريخية ولنستمع اليها حين يتحدث بمشاعره الجياشة فيقول (وحين كنت أسائل نفسي في ذلك الوقت-في عشرينات القرن الماضي وهوطالب في المدارس الابتدائية – : لماذا أخرج في حماسة في مظاهرات ، ولماذا أغضب لهذه الأرض التي لم أراها ؟ ولم أكن أجد بنفسي سوى أصداء العاطفة).
ثم( بدأ نوع من الفهم يخالج تفكيري حول هذا الموضوع لما أصبحت طالباً في الكلية الحربية أدرس تاريخ حملات فلسطين بصفة خاصة ، وأدرس بصفة عامة تاريخ المنطقة و ظروفها التي جعلت منها في القرن الأخير فريسة سهلة يتخطفها أنياب مجموعة من الوحوش الجائعة!. ثم بدأ الفهم يتضح و تتكشف الأعمدة التي تتركز عليها حقائقه لم بدأت أدرس وأنا طالب في كلية أركان الحرب حملة فلسطين ومشاكل البحر المتوسط بالتفصيل).
ثم يقول (ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض عربية . وهو ليس انسياقا وراء عاطفة وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس) !.
ثم يعود بنا داخل وثيقة (فلسفة الثورة الي عام 1947(وأذكر يوماً عقب صدور قرار تقسيم فلسطين في شهر سبتمبر سنة 1947 عقد فيه الضباط الأحرار اجتماعا واستقر رأيهم على مساعدة المقاومة في فلسطين وذهبت في اليوم التالي أطرق بيت الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ، وكان لا يزال يعيـــــــــش في الزيتون، وأقول له:
– إنكم في حاجة إلى ضباط يقيدون المعارك ويدربون المتطوعين في الجيش المصري عدد كبير من الضباط يريد أن يتطوع وهم تحت أمرك في أي وقت تشاء!.
وقال لي الحاج أمين الحسيني أنه سعيد بهذه الروح ، ولكنه يرى أن يستأذن الحكومة المصرية قبل أن يقول شيئاً ثم قال لي الحاج أمين: سوف أعطيك ردي بعد استأذن الحكومة. وعدت إليه بعد أيام ، وكان رده ، الرد الذي حصله عليه من الحكومة وهو الرفض !. ولم نسكت. وبعدها كانت مدفعية أحمد عبد العزيز تدك المستعمرات اليهودية جنوبي القدس ، وكان قائد المدفعية هو كمال الدين حسين عضو اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار التي تحولت إلى مجلس قيادة الثورة). ثم يذكر عبدالناصر أسرارا آخري في وثيقة (فلسفة الثورة )فيقول: أذكر سراً آخر كان ذات يوم أغلى أسرار الضباط الأحرار .(كان حسن إبراهيم قد سافر إلى دمشق ، واتصل ببعض ضباط القاوقجي . وكان القاوقجي يقود قوات التحرير العربية و يستعد لمعركة حاسمة فاصلة في المنطقة الشمالية من فلسطين. ووضع حسن إبراهيم و عبد اللطيف بغدادي خطة جريئة للقيام بعمل حاسم في المعركة التي تستعد لها قوات التحرير . كانت الخطوط البارزة في تلك الخطة هي أن قوات التحرير العربية لا تملك طيران يساعدها في المعركة ويرجح النصر إلى كفتها ، ولو أنها حصلت على معونة من الجو بضرب مركز فوق ميدان العملية ، لكان ذلك عملاً فاصلاً ، ولكن من أين لقوات التحرير العربية بالطيران لتحقيق هذا الحلم ؟. ولم تكن مصر قد دخلت حرب فلسطين ، ولكن جو الرقابة على قوات المسلحة – بما فيها سلاح الطيران – حذرا متيقظاً !. ومع ذلك لم يجد اليأس ثغرة ينفذ منها إلى تفاصيل الخطة وبدأت في سلاح الطيران حركة عجيبة ، وبرز فيها نشاط واسع لاصلاح الطائرات و إعدادها ، وجهود واضحة في التدريب سرت كالحمى في نفوس عدد من الطيارين .. ولم يكن هنا إلا قلائل يعرفون السر … يعرفون إن الطائرات و قوادها قد أعدوا ليوم تجئ فيه من سوريا إشارة سرية ، فينطلقون بعدها إلى الجو ليشتركوا بكل قواتهم في معركة حاسمة على الأرض المقدسة . ثم يتجهون بعد ذلك إلى مطار قرب دمشق ، ينزلون فيه ويترقبون الأحوال في مصر ، ويتعرفون صدى هذه الحركة التي أقدموا عليها ، ثم يقررون ماذا يتصرفون بعدها !. وكان أرجح الاحتمالات أن يحاكم كل طيار اشترك في هذه العملية وأذكر أن كثيرون رتبوا أمورهم على أن الظروف ربما تحول بينهم و بين العودة إلى الوطن قبل سنوات قد تطول و تمتد …
وكان شعورنا في اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار . والمؤكد أن نفس الشعور كان يراود خواطر كل الطيارين المشتركين في السر الكبير إن هذه المخاطرة الجريئة لم تكن حباً في المخاطرة ، ولا كانت رد فعل للعاطفة في نفوسنا ، إنما كانت وعياً ظاهراً لإيماننا بأن رفح ليست آخر حدود بلادنا ، وان نطلق سلامتنا يقضي علينا أن ندافع عن حدود إخواننا الذي شاءت لنا أحكام القدر أن نعيش معهم في منطقة واحدة . ولم تتم الخطة يومها …لأننا لم نتلق الإشارة السرية من سوريا . و قضت الظروف بعضها أن تدخل الجيوش العربية كلها الحرب في فلسطين).
******************. ولقد خلت إلى نفسي مرات كثيرة في خنادق عراق المنشية وفي جحورها* وبعد تلك الاسرار التي لم يوردها كثير من المؤرخين الذين أرخو لعلاقة عبدالناصر بفلسطين أو لتحليل كتاب ووثيقة (فلسفة الثورة ) …ينتقل بنا جمال عبدالناصر الي قضية أخري وهي أيضا مرتبطة بمشاعره ووجدانه الذي أحب فلسطين وعشقها يقول ( . كنت يومها أركان حرب الكتيبة السادسة التي كانت تقف في ذلك القطاع-يقصد قطاع غزة – وتدافع عنه أحياناً و تهاجم في أكثر الأحيان . وكنت أخرج إلى الأطلال المحطمة من حولي بفعل نيران العدو ثم أسبح بعيداً مع الخيال . وأحياناً كانت الرحلة مع الخيال تمضي بي بعيداً إلى آفاق النجوم ، فأطل من هذا الارتفاع الشاهق على المنطقة بأكملها . وكانت الصورة تبدوا في ذلك الوقت واضحة أمام بصيرتي . هذا هو المكان الذين نقبع محاصرين فيه ، هذه موقع كتيبتنا وهذه مواقع الكتائب الأخرى المشتركة معنا على الخط . وهذه قوات العدو تحيط بنا . وهذه قوات أخرى لنا … وهي أيضاً محاصرة لا تستطيع الحركة الواسعة وان بقى لها مجال للمناورة المحدودة . إن الظروف السياسية المحيطة بالعاصمة التي نتلقى منها الأوامر تحيطها بحصار و تلحق بها عجزا أكثر من الذي تصنعه بنا نحن القابعين في منطقة الفالوجة . ثم هذه قوات إخواننا في السلاح وفي الوطن الكبير وفي المصلحة المشتركة وفي الدفاع الذي جعلنا نهرول إلى أرض فلسطين .
هذه هي جيوش إخواننا …جيشا جيشا …كلها هي أيضا محاصرة بفعل الظروف التي تحيط بها والتي كانت تحيط بحكومتها .. لقد كانت جميعا تبدو كقطع شطرنج لا قوة لها ولا إرادة إلا بقدر ما تحركها أيدي اللاعبين . وكانت شعوبنا جميعاً تبدو في مؤخرة الخطوط ضحية مؤامرات محبوكة أخفت عنها عمداً ما يجري ، وضللتها حتى عن وجودها نفسه . وأحيانا كنت أهبط من ارتفاع النجوم إلى سطح الأرض ، فأحس أنني أدافع عن بيتي وأولادي ، ولا تعنيني أحلامي الموهومة والعواصم و الدول و الشعوب والتاريخ) ثم يقدم لنا قصة إنسانية آخري عن أطفال فلسطين فيقول في السطور المجهولة من (فلسفة الثورة ) : . (عندما ألتقي في تجوالي فوق الأطلال المحطمة ببعض أطفال اللاجئين الذين سقطوا في براثن الحصار بعد أن خربت بيوتهم وضاع كل ما يملكون ، واذكر بينهم طفلة صغيرة كانت في مثل عمر ابنتي ، وكنت أراها وقد خرجت إلى الخطر والرصاص الطائش مندفعة أمام سياط الجوع و البرد تبحث عن لقمة عيش أو خرقة قماش . وكنت أقول لنفسي :
– فد يحدث هذا لابنتي ! وكنت مؤمنا أن الذي يحدث لفلسطين كان يمكن أن يحدث – ومازال حدوثه قائما – لأي بلد في هذه المنطقة مادام مستسلماً للعوامل والعناصر والقوى التي تحكمه الآن .
ولما أنتهي الحصار وانتهت المعارك في فلسطين وعدت إلى الوطن ، وكانت المنطقة كلها في تصوري قد أصبحت كلا واحدا .
وأيدت الحوادث التي جرت بعد ذلك هذا الاعتقاد في نفسي . كنت أتابع تطورات المواقف فيها فأجد أصداءه يتجاوب بعضها مع بعض . كان الحادث يقع في القاهرة فيقع مثيل له في دمشق غدا ، وفي بيروت وفي عمان ، وفي بغداد ، وغيرها . وكان ذلك كله طبيعياً مع الصورة التي رسمتها التجارب في نفسي منطقة واحدة ، ونفس الظروف ، ونفس العوامل ، بل نفس القوى المتألبة عليها جميعا. وكان واضحا أن الاستعمار هو أبرز هذه القوى)
*****************
وفي سيبله لتحديد مصادر قوة العرب في مواجهة هذا الاستعمار المجرم الذي في مقدمته إسرائيل يقول عبدالناصر في موضع آخر في (فلسفة الثورة ) (أول هذه المصادر أننا مجموعة من الشعوب المتجاورة ، المترابطة بكل رباط مادي ومعنوي يمكن أن يربط مجموعة من الشعوب ، وأن لشعوبنا خصائص ومقومات و حضارة انبعثت في جوها الأديان السماوية المقدسة الثلاثة ، ولا يمكن قط إغفالها في محاولة بناء عالم مستقر يسوده السلام . هذا هو المصدر الأول أما المصدر الثاني:
فهو أرضنا نفسها و مكانها على الخريطة العالم . وذلك الموقع الاستراتيجي الهام الذي يعتبر بحق ملتقى طرق العالم ، ومعبر تجارته ، وممر جيوشه . ويبقى المصدر الثالث:
وهو البترول الذي يعتبر عصب الحضارة المادية ، والذي بدونه تستحيل كل أدواتها – المصانع الهائلة الكبيرة لكافة أنواع الإنتاج ، وسائل المواصلات في البر والبحر والجو ، أسلحة الحرب سواء في ذلك الطائرات المحلقة فوق الضباب أو الغواصة المستترة تحت أطباق الموج – تستحيل كلها قطع من الحديد يعلوها الصدأ لا تنبعث منها حركة .. أو حياة)
***************
ثم بعد أن يفصل في أسرار ومكونات تلك المصادر ينتهي في وثيقة (فلسفة الثورة ) الي نتيجة ..مهمة ..قالها وكأنها تنطبق حرفيا علي حال ألامة العربية اليوم (وآذن فنحن أقوياء ، أقوياء ليس في علو صوتنا حين نولول ، ولا حين نصرخ ، ولا حين نستغيث ، إنما أقوياء حين نهدأ ، أو حين نحسب بالأرقام مدى قدرتنا على العمل ، وفهمنا الحقيقي لقوة الرابطة بيننا ، هذه الرابطة التي تجعل من أرضنا منطقة واحدة لا يمكن عزل جزء منها على كلها ، ولا يمكن حماية مكان منها بوصفه جزيرة لا تربطها بغيرها رابطة) *ولعل أبلغ وأجمل ما إنتهت به وثيقة (فلسفة الثورة ) هو تلك الصرخة والامل الذي لايزال قائما حتي اليوم(2024) وبعد سبعين عاما من كتابة عبدالناصر لفلسفته ..أمل أن تلعب هذة الامة دورها الحقيقي في التاريخ … لقد ختم عبدالناصر فلسفته بالقول ( . ثم أعود إلى الدور التائه الذي يبحث عن بطل يقوم به (.. ذلك هو الدور ، وتلك هي ملامحه ، وهذا هو مسرحه) فمن البطل الذي قصده جمال ؟ الاجابة لاتزال برسم الغيب !
*كاتب المقال: كاتب صحفي وباحث ومدير مركز يافا للدراسات والبحوث.