… وحينما رأيتُ ما رأيت ، تمنَّيْـتُ أنْ أدعوكم كلَّكُمْ جميعاً إلى ما يُسمَّى لعبـةَ “العـدّ”.
وقبل أنّ تتسرَّعوا في لعبـةِ العـدّ الطائفي ، تعالَوا نعـدّ ما يتخبّط بـه لبنانُ من أزمات … عـدّوا معي وعضّوا على الأصابع :
مِنْ أزمـةِ وطـنٍ ، إلى أزمـة نظامٍ وأزمـةِ حكمٍ وأزمـة سلطةٍ ودستور .. أزمـةِ سياسةٍ وسيادةٍ وولاءٍ وطني وانقسام وطني … أزمـةِ وجـودٍ وأزمـة حدودٍ وجبهة جنوب … أزمـةِ أمـنٍ وقضاء وعمـلٍ ومجاعةٍ وبطالةٍ وفقـر … أزمـةِ هجرةٍ ومهجّرين ، ونزوحٍ ونازحين ومصارف ومودعين … أزمـة اقتصاد ومـالٍ وأخلاقٍ ورجال.
ولو شئتُ أنْ أستكمل مجموعةَ العـدّ لكان بين يـديّ مجموعةُ حكاياتٍ مأتميَّـةٍ من ألـف ليلةٍ وليلة ، وملحمةٌ وطنية من ألـف بيتٍ وبيت . ومع هذا الطوفان من الأزمات ، تعالوا نتراقص حول النار كالهنود الحمر ، ونتقاتل على اصطياد الفريسة.
بسبب أزمـة تعدّد أنواع “الجبنـة” ، تعـذَّرَ على الجنرال شارل ديغول أنْ يحكم فقـال : “كيف أستطيع أنْ أحكم بلـداً كفرنسا وفيه 400 صنف من الجبنـة …”
ومَـنْ هو هذا الجنرال “الديغولي” الذي يستطيع أن يحكم بلداً كلبنان ، وفيه 400 صنف من الأزمات والتناقضات والمشكلات والتيارات والإنقسامات والمخيّمات … وفيهِ 400 صنف من أكَلَـةِ الجبنة . فراغٌ وطني ، وفراغٌ سلطَوي ، وفراغٌ سياسي ، وفراغٌ رئاسي ، وفراغٌ عقلي … لم يبـقَ عقلٌ في رأس ، وما حَكَكْتَ جبيناً إلاّ أجابكَ الطنـين . هؤلاء ، الذين شمخوا برؤوسهم حكّاماً كباراً ومسؤولين أقوياء ، راحوا يتبادلون أدوار الإنهيار والإتجار ، في دولـةٍ جعلوها كما في الأفلام الأميركية تتخلَّى عن دور الماريشال لصيّادي الجوائز ورُعـاةِ البقر .
همُ الذين جعلوا الدولة مقبرةً للأحياء ، وراحوا يتقاتلون على أشلائها … هذهِ التي أصبحت كما يصفها الشيخ الرئيس : “إبن سينا” “دولـةً على المجاز” وقُـلْ : كما يصف أحمد شوقي دولـةَ : “الأسد والقـرد والثعلب والهـرّ … “سألتُكَ الموتَ ولا ذي الدولة …”
أَليستِ الأسباب التي أدّتْ إلى حرب 1975 هي التي تُطلُّ اليوم برأسها المحموم ، كأنّما هي نفسُها تكـرّر نفسَها وتُطلقُ صفارات الإنذار …؟ بالأمس ، كان هناك اتفاق الطائف ، فاعتقدنا أنّـهُ سيختـمُ بالشمع الأحمر كلَّ أبواب الحرب بعد تجربـةٍ مأساوية مُـرّة ، لم يسلم فيها لا مذهبٌ ولا بيت ..
إلاّ أن أولياء الأمـر طيَّفوا اتفاق الطائف بأكثر ما كان قبلَـهُ من سموم ، وطافوا بـه سلعةَ مصالح وسوقاً تجاريـة عبـرَ ما يعرف “بالترويكا” المذهبية الفاحشة الجشع ، فإذا نحن بعد الطائف نستمر شتاتاً في دولـة متحاربةٍ ، وفي حـربٍ صامتةٍ مع وقـفٍِ لإطلاق النارِ .
هكذا ، كأنّ الطائف كان هدنـةً استمرّت معها الحرب بالتشابك : التشابك الطائفي ، والتشابك الدستوري ، والتشابك السياسي ، والتشابك السيادي .
التشابك السيادي في دولة واحدةٍ يعني أنّ هناك سياديتين … ومشكلة السيادتين في دولة واحدة ، تعني أنّ هناك دولتين … ولبنان الدولتين يعني ، لبنان اللبناني : ولبنان الغرباء عن لبنان ، ولبنان الغرباء في لبنان ، والغرباء اللبنانيين واللبنانيين الغرباء .
أخطر سؤال تاريخي يطرحه كـلُّ لبناني اليوم على أولياء الأمر : بربّكم ، لا تجعلوني أفتّـشُ عن وطني في وطني .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.