استراتيجية النفوذ الروسي (1-2)

آخر تحديث : الجمعة 5 يوليو 2024 - 10:01 صباحًا
 بقلم: حاتم عبد القادر
بقلم: حاتم عبد القادر

أثارت جولة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كل من كوريا الشمالية وفيتنام العديد من التساؤلات والتكهنات من قبل المحللين في مجال العلوم الاستراتيجية، لما حملته الزيارتين من دلالات ورسائل مبطنة وأخرى صريحة موجهة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين.

ولا يخفى أن توقيت الزيارة ذاته حمل أبعادا في غاية الدلالة والتحدي، خاصة وسبقتها زيارة إلى دولة الصين منذ أشهر قليلة، حيث التحدي الواضح من قبل “بوتين” لقرار المحكمة الجنائية الدولية بوجوب اعتقاله على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية وارتكابه جرائم حرب.

والملاحظ في اختيارات الدول التي يزورها “بوتين” أنها دول ذات طبيعة خاصة ومحل ثقة كبير في ذات الوقت؛ حيث لا يمكن لهذه الدول أن تغدر ببوتين، هذا من ناحية، أما الناحية الأهم فهي أن هذه الدول ذاتها تعد في حالة حرب باردة مع نفس الدول المعادية لروسيا، إذن روسيا والصين وكوريا الشمالية وفيتنام أيضا أمام عدو مشترك.

وبمتابعة الزيارة الرسمية للرئيس بوتين إلى كوريا الشمالية ومدتها، ومدة المحادثات المباشرة بين الزعيمين الروسي فلاديمير بوتين والكوري الشمالي كيم جونج أون والتي امتدت إلى ساعتين، وما أسفرت عنه الزيارة إلى توقيع معاهدة للدفاع المشترك توجب الدفاع المتبادل حال تعرض أي من الدولتين للعدوان، وقد عبر “بوتين” عن المعاهدة بأنها “وثيقة ثورية “، وهذا التعبير –تحديدا- يجب الوقوف أمامه بشكل مختلف عند تحليله. فلماذا اختار “بوتين” لفظ الثورية الذي يعني الانتفاض، وتغيير أوضاع قائمة يرفضها الموقعون على المعاهدة وشعوب أخرى. وبالرغم من أنه لم يتم الكشف الكامل عن بنود الاتفاق، وهي خطوة استراتيجية تحفظ للدولتين أسرار اتفاقهما وآلياته في إطار الحفاظ على الأمن القومي وأسرار تحرك كلتا الدولتين، وفي نفس الوقت الكشف عن تمتعهما بقوة رادعة عندما يتطلب الأمر، وأن القوة الرادعة هنا أصبحت قوتين رادعتين اتحدتا في قوة واحدة في وجه أي اعتداء محتمل على أي من روسيا أو كوريا الشمالية.

وبالبحث عن دوافع توقيع هذه الاتفاقية اليوم، نرى أن العوامل متشابهة حيث تعاني كلتا الدولتين من فرض عقوبات دولية ما زالت مستمرة، وأن روسيا مازالت تعاني من عزلة سياسية عن العالم بسبب حربها ضد أوكرانيا، ومحظور على الرئيس الروسي الزيارات الخارجية و-خصوصا- إلى الدول الموقعة على معاهدات خاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، لكنه نجح في كسر هذه العزلة وقام بزيارة دول محددة في تحد واضح أمام قرار المحكمة الجنائية الدولية الذي وصفه غالبية المراقبين بالمتحيز.

وعند النظر إلى “الوثيقة الثورية” التي صاغها ووقعها “بوتين” و”كيم” وتعليقاتهما في أعقاب الاتفاق، واتفاقهما على المضي قدما في تحقيق أهداف الوثيقة والتي تتمحور في عدم الخضوع لابتزاز الغرب وتنفيذ إملاءاته، وهذه النبرة تعد من مترادفات قاموس الدول الشيوعية ا”لثورية”، أيضا نفس التعبير موجود في تراث وأدبيات الثوريين وحركات التحرر والاستقلال سواء في دول أمريكا اللاتينية وآسيا ودول القارة الأفريقية في التخلص من قبضة الدول المحتلة.

أيضا، فإن الخطاب الصادر عن الزعيمين ليس بغريب عن قيادات دول يتم تصنيف حكمها بالدول الشمولية.

إن توقيع اتفاقية دفاع مشترك بهذا الحجم الذي صاحبه احتفالية ضخمة في شوارع عاصمة كوريا الشمالية والاستقبال المهيب، أطلق رسائل مشتعلة لمن يعنيه الأمر.

فالاتفاقية في إطار التعريف الاستراتيجي تعني أنها خطة رفيعة المستوى لتحقيق هدف بعيد المدى وفق الإمكانات المتاحة والتحديات المحتملة.

من هنا فإن “بوتين” و”كيم” وضعا خطة استراتيجية لمخاطبة العالم أن الوضع بهذه الصورة لا يجب أن يستمر طويلا.. وإننا اليوم يجب أن نكون في عالم متعدد الأقطاب، لا أن تحكمه قوة واحدة يخضع الجميع لابتزازها وإملاءاتها، وهو ما عبر عنه “بوتين” صراحة في أعقاب الاتفاق.

اللافت في توقيت الزيارة وأهميتها أنها الأولى للرئيس بوتين منذ ٢٤ عاما، وكون وصف المعاهدة بالاستراتيجية يعني أنها امتدت المجالات التي تعد ركنا أصيلا من أركان التنمية الشاملة لكلا الدولتين. فمن المؤكد أن المعاهدة تطرقت إلى التعاون في مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية وفي عمق هذه المجالات كان الجانب العسكري الذي تم الإعلان عنه دون الخوض في تفاصيله.

وهنا يبقى السؤال: ما الذي ستقدمه روسيا إلى كوريا الشمالية من تقنية حساسة في التصنيع العسكري؟ وماذا تحتاج روسيا من كوريا الشمالية في هذه المرحلة –تحديدا- وعلى المستوى المتوسط؟.. أسئلة تحتاج إلى إجابات شافية محددة بعيدة عن التكهنات والتحليلات الضبابية.

ولكن، ولأن الدولتين تمتلكان قوة ردع حقيقية؛ فإن التسرب بدأ يتسرب في نفوس الجبهة المضادة بقيادة أمريكا، وهذا ما عبرت عنه أمريكا صراحة بأن المعاهدة العسكرية بين روسيا وكوريا الشمالية أمر مقلق للغاية، وسيجعل منطقة شبه الجزيرة الكورية منطقة ملتهبة خشية إرسال روسيا أسلحة لتلك المنطقة.

إن “بوتين” لم يتوقف عند هذا الحد، فكانت محطته الثانية بعد كوريا الشمالية هي فيتنام، في زيارة كانت أشد لهجة في رسالتها الموجهة؛ حيث الدولة الأشد عداوة بحكم الحرب التي امتدت إلى ٢٠ عاما بينها وبين أمريكا.

وعلاوة على الاتفاقيات التي تم توقيعها بين روسيا وفيتنام خلال تلك الزيارة لبوتين، إلا أن التصريحات النارية له من فيتنام حملت دلالة وأبعادا لا يستهان بها، وقد تخلق موجة جديدة في الصراع الدائر حاليا بين روسيا والذي تشهد فصوله الحرب الدائرة في أوكرانيا.

إن زيارات بوتين الآسيوية وتوقيعه معاهدات واتفاقيات توصف بالاستراتيجية لا تنطوي إلا على فصل جديد من المواجهة مع أمريكا وحلفائها الغربيين في محاولة مستمرة من القطب الروسي الذي تمكن من تموضع قدمه في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية لإعادة النظام العالمي إلى نظام متعدد الأقطاب.

رابط مختصر
2024-07-05 2024-07-05
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر