شهيدٌ على طريق لبنان والقدس

آخر تحديث : الجمعة 30 أغسطس 2024 - 7:09 صباحًا
بقلم: جوزيف الهاشم
بقلم: جوزيف الهاشم

رحَـل دولةُ الرئيس سليم الحصّ وهو يُغمض عيْنَيـهِ الدامعتين على رحيل الدولة …

وغاب الرجلُ الكبير “ضمير لبنان” ، وكان لم يبـقَ في لبنان لا كبارٌ ولا ضمير …

بغياب الرجال تقـزَّم لبنانُ وتمـزّق …

وبغياب الضمير تفاقَمَ الفسادُ وسَاد …

هذا الذي ارتقى شهيداً على طريق لبنان كما على طريق القدس ، والسيف موقفٌ والميدان منبـر ، ما ارتقى منصّـةَ الحكم إلاّ كان واحداً من القلّـةِ الحاكمةِ النادرة : لم يلطّخْ إصبعاً بفساد ، ولم يلطّخْ ساعداً بـدمٍ ، ولم يلطّخْ شرفَ الحكم بالحقارة.

عريقٌ في لبنانيّته ، أصيلٌ في عروبته ، عنيدٌ في مواقفه ، وَرِعٌ في إيمانـه ، جامـعٌ في وطنيته ، وهو صاحب الشعار : “وحدة لبنان تعادل وجودَه”.

عصاميٌّ هو ، لم يـرِثْ إرثَ سياسةٍ ولا جـاهٍ ولا مـال … ولم تخلـعِ الدولةُ العثمانية على جّـدهِ لقَـباً باكويّـاً ، بل بنى نفسَهُ بنفسهِ والعزمُ جامـحٌ نحو الطموح ، وليس هو من الذين يقول فيهم تشرشل : “كثيرون ارتقَـوْا سلَّـمَ المجد على أكتاف أصدقائهم أوْ على جماجمِ أعدائهم ..” بمثل ما كان عنده من إيجابيّات ، كان عنده رفضٌ إيجابي : هو : “يرفض العنف ، يرفض سلاح الحرب ، يرفض أن ينتصرَ أخٌ على أخيه بالتقاتل ، يرفض عقوبـةَ الإعدام ، يرفض أن يُعيّنَ نائباً بعد الطائف ، ويرفض أن يتولَّى منصبَ وزيـر الدفاع أو وزير الداخلية طيلة وجـوده رئيساً للوزراء إصراراً منه على البُعْـدِ عن إدارةِ القرار العسكري(1) …” هذه المزايا التي تحلّـقَ بها الرئيس الحص ، لم تكن مألوفةً في دولة المزرعة ، دولة ملوك الطوائف ، دولة ديماغوجية الزعيم ، والمنتفعين من حظيرة السياسة الفاسدة بالوراثة … ولهذا شُنَّـتْ عليه الضغوط . يقول : “تعرّضتُ لعنفٍ شديد في وسطي السياسي بسبب التزام الخـطّ الذي يتعلّق بوحدةِ مؤسسات الدولة ، وشعرتُ بأنَّ الضغط من جانب أطرافٍ كانوا المحسوبين في عـداد الحلفاء(2) ..”

من خلال علاقتي الحميمة بالرئيس الحص ، عرفت كم كانت الضغوط تنهال عليه من داخلٍ ومن خارج فيصّدها بصلابة ، ولم يكـنِ التهويل بالمناصب يشكُّل مادةَ ضعفٍ لديـه ، وهو لم يسعَ إلى الكرسي بل سعى إليه ، وكان يعرف أن الذين يزحفون على بطونهم لاستجداء الكراسي لا يستطيعون أن يرفعوا رؤوسهم.

عرفتُ الرئيس الحص عن قـربٍ حين كنتُ زميلاً لـهُ في حكومة الرئيس رشيد كرامي ، وكنتُ إليه الأقرب كما كان إليّ ، وكان للتفاعل الصادق بيننا مفاعيلُ إيجابية على مستوى الصفّ الحكومي الذي كان يشوُبـهُ الكثير من العاهات.

وكم كان للرئيس الحص من حكمـةِ المواقف في مجلس الوزراء حالَتْ دون تأجيج المآزق السياسية والأمنية عبـر المغامرات الهوج التي كانت تعصف بالبلاد ، “وإنْ ضـاقَ المقام هنا لتعداد هذه المواقف فقد يكون لها مجالٌ آخـر” .

من المفيد ، أنْ نختار اليوم من جلائل الأقوال للرئيس الحص ما ينطبق على مأساة حالنا فيقول :

“لقد أظهرنا للعالم أنّ مجموعةَ مؤسساتٍ عندنا لا تشكّل دولة ، ومجموعةَ مناطق لا تشكّل وطناً ، ومجموعة طوائف لا تشكّل شعباً ، ومجموعة وزراء لا تشكّل حكومة ، ومجموعة زعماء لا تشكّل قيادةً ، ولا يستقيم الوضع في لبنان إلاّ عندما نبني دولـة ونكون شعباً ومجتمعاً(3)…”

مسيرةُ الرئيس الحص مدرسةٌ سياسية وثقافةُ قِـيَم ، لعلّها تكون سبيلاً إلى ما كان إسمّـه ، “الإصلاح والتغييـر” . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 – كتاب الرئيس الحص : عهد القرار والهوى : ص: 133 – 251 .

2 – المرجع نفسه : ص : 52 .

3 – جريدة النهار : 8 أيار 1987 .

*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.

رابط مختصر
2024-08-30
أترك تعليقك
0 تعليق
*الاسم
*البريد الالكترونى
الحقول المطلوبة*

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

شروط التعليق : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

ان كل ما يندرج ضمن تعليقات القرّاء لا يعبّر بأي شكل من الأشكال عن آراء اسرة العربي الأفريقي الالكترونية وهي تلزم بمضمونها كاتبها حصرياً.

حاتم عبدالقادر