لم يكنْ أحـدٌ يصّدق ، في دولـةٍ سقطَتْ فيها الأنظمةُ الشرعية والشرائعُ القانونية والقوانينُ الوضْعية ، أنّ قاضياً لبنانياً يتجرَّأ على توقيف أخطر سلاطين المال وقد حضنَتْـهُ الرؤوس الكبيرة والنفوس الصغيرة وأصرَّتْ على تمديد الولاية له.
أنْ يُقْدمَ المدعي العام التمييزي بالإنابة جمال الحجار ، على توقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة ، فهذا حدثٌ من النوادرِ ، يُثْبـتُ أنّ لبنان لا يزالُ فيهِ قضاةٌ أحرار يتحلَّون بشرف “الروب الأحمر” ، ولا يزال فيه بصيصُ عـدلٍ وشرعيةُ قانون ، وأنّ الحـقَّ ينامُ ولكنّه لا يموت.
لقد أنقذ الحجار في هذا القرار ، ما تبقّى من سمعة العدالة المنتهكة ، وسمعة القضاء المترنّحة ، وسمعة لبنان القانونية ، وأثبت أن القانون هو الذي يفرضُ القـوةَ بالعدل لمصلحة صاحب الحق ، وليست القـوةُ هي التي تفرض القانونَ بالقمْعِ لمصلحة سيّد النظام.
أهمية هذا القرار هي في التوقيف بحدِّ ذاتـه ، بغض النظر عن الدوافع ونتائج الحكم ، وهو يشكل سابقةً في النزاهة والشجاعة القضائية ، قد يتمثّـلُ بها سائر القضاة الذين يترنحوّن تحت سلطة الترهيب والترغيب للوقوف على الأبواب وتقبيل الأعتاب.
القاضي ليس موظّفاً عند ولـيّ النعمة ، بل هو سلطةٌ حاكمةٌ يُصدرُ الأحكامَ باسم الشعب اللبناني ، ومن الشعب اللبناني وحجَّـةِ القانون ووحي الضمير يستمـدّ سلطاناً ليس فوقَـهُ فوق.
لعلّ التوسّع في التحقيق مع حاكم بنكٍ يمتلكُ بنْكاً من المعلومات السرّيـة في صندوقـهِ الأسود ، يكشفُ القناعَ عن الرؤوس الكبيرة والشهيرة التي يـدور حولها الهَمْسُ ، وهي ترفض بفعل سيطرة النفوذ تلبيةَ استدعاءات المحاكم عندما تُوجَّـه إليها أصابع الإتّهام.
الذين يتهرّبون من دعوة المحكمة كباراً كانوا أو صغاراً ، إمّا أنّهم متوّرطون ولا حساب ، وإما أنّهم فوق القانون ، والمصيبة أعظم . في 13 حزيران 1935 تهجّـم شابٌّ من آل المقدّم في طرابلس على الزعيم عبد الحميد كرامي وأقدم على طعْنـهِ بالسكيّن ، فاضطر عبد الحميد أن يُطلقَ النار على الشاب لرَدْعـهِ ، ثم قام بتسليم نفسه للقضاء وسُجن ، وقد تولّـى الشيخ بشارة الخوري الدفاع عنه بمرافعةٍ بارعة في المحكمة وأُعلنَتْ براءتُـه بعد إسقاط الحـقّ الشخصي(1).
هكذا كان الكبار المحترمون عندنا لا يتكبّرون على القانون … وهكذا يكون القانون في المجتمعات الحضاريّة مقدّساً كمثل كُتُـبِ العبادة ، لأنّ القانون هو الحقّ ، والحقّ في القرآن هو الله(2).
بعد رياض سلامة ، ماذا عن الرؤوس التي أينَعتْ وحانَ قطافُها …؟ ماذا عن المتورِّطين في تفجير المرفأ …؟ ماذا عن المتورِّطين في سرقة أموال المودعين …؟ ماذا عن مجزرة الكهرباء وسائر أخواتها …؟ ماذا عن الإنهيار الكامل والشامل في شتى قطاعات الدولة ومؤسساتها …؟
وهناك مئـة ماذا وماذا ، تحتاج إلى مئـة حجّار وحجّار.
لأن التشبُـهَ بالكرام فلاحُ .. نرجو أنْ يكون قـرار القاضي الحجار مثالاً قضائياً يُحتذى ، وبينَ جمال الحجار وطارق البيطار شبَـهٌ بالوزن والقافية … ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – من كتاب الشيخ بشارة الخوري : وليد عوض – الجزء الأول – ص : 190 .
2 – “فذَلِكُمُ اللّهُ ربُّكُمُ الحقُّ” سورة يونس القرآنية – 32 .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.