تمر المنطقة بمرحلة دقيقة وغاية في التعقيد على كافة الأصعدة من تحولات سياسية وجيوسياسية، بفضل الفاعلين الدوليين والإقليميين، بما يهدد الأمن القومي العربي كافة، وبما ينذر بنشوب مزيد من صراعات إقليمية في بؤر التوتر العربي، كذلك في منطقة القرن الأفريقي والتي لها انعكاسات مباشرة على المنطقة العربية.
وعربيا، فقد اشتدت الحرب القائمة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بعد مرور عام من إطلاق “حماس” عملية “طوفان الأقصى” والتي استهدفت جنوب دولة الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر لعام 2023، وأوقعت به خسائر نكراء في الأرواح والعتاد العسكري وانهيار اقتصادي لم يشهده من قبل.
وقد امتدت العمليات العسكرية من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى الجنوب اللبناني، حيث معقل “حزب الله”، الذي أعلن مساندة المقاومة الفلسطينية ومؤازرتها في وجه الكيان الغاصب، واستمرت المواجهات إلى أن قام جيش الاحتلال باغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله (حركة المقاومة الإسلامية في لبنان) في 27 سبتمبر 2024، ومنذ أيام تم اغتيال يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في 16 أكتوبر 2024، ومؤخرا، تم اغتيال هاشم صفي الدين رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله في غارة إسرائيلية، حتى أكد حزب الله نبأ مقتله، علاوة على قيام جيش الاحتلال باغتيال قادة آخريم في صفوف الحركتين.
ومن قبل هؤلاء تم اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في 31 يوليو 2024 أثناء تواجده في إيران.
ومع اغتيال هؤلاء القادة على يد قوات العدو الأول للأمة العربية، ثارت حالة من الحزن والتعاطف الوطني والإنساني مع المغدور بهم، ما أفرز حالة من السجال والجدال على المستوى الشعبي والنخبوي بين مؤيد ورافض لمقتل هؤلاء القادة في حركتي “حماس” و”حزب الله”.
فالمؤيدون، ورغم الاختلاف الفكري والاتجاه العقدي والنهج في مرجعيات وأدبيات كل من الحركتين، إلا أن هناك مرحلة تقاطعت فيها الأهداف وهي مواجهة العدو بما نملكه من أدوات وأحلام هي تحرير أراضينا وتراب أوطاننا من يد الغاصب المحتل.
فنحن أمام مرحلة فارقة، لا يهمنا فيها دين أو مذهب، المسلم (سنيا أو شيعيا) بجوار أخيه المسيحي فقد توحد الهدف، وعلونا على خلافاتنا في وجه المحتل.. وعند عودة الأوضاع لاستقرارها يعود كل منا على موقفه السياسي ومذهبه.
أما الرافضون لما تقوم به أي حركة مقاومة لمجرد خلاف في الاتجاهات السياسية، أو مرحلة من مراحل العداء بيننا وبين تلك الحركات من المقاومة، فلا يدركون أنهم أصبحوا طواعية في كفة المحتل الغاصب لأراضيا، رافعين من معنوياته بدلا من مؤزارة أشقائنا في فلسطين ولبنان، خاضعين لما يقوم به المحتل ويقدمه من غسيل لأفكارنا من أن تلك الحركات ليست إلا صنيعة إسرائيلية وأن ما يقومون به ليس إلا مجرد مؤمرات مع دولة الاحتلال وبعض قوى الإقليم، وتمثيليات لجمع الثروات والعيش في رخاء على حساب شعوبهم.
لقد تابعنا، مندهشين، على مواقع التواصل الاجتماعي ما رأيناه من كم الشماتة والسرور في مقتل كل من إسماعيل هنية، وحسن نصر الله، ويحيى السنوار، وهاشم صفي الدين ونعتهم بأوبخ الصفات وهم أرواح في ذمة الله وحكمهم بين يديه.. ونسي هؤلاء أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قام حين مرت عليه جنازة ليهودي، وحين سألوه رفاقه مندهشين من قيامه فأجابهم “أليست نفسا؟!”.
لقد احترم صلوات الله وسلامه عليه نفسا من خلق الله، فقام لها تأدبا لله، فكانت صفاته وأخلاقه التي نادى بها أمته.
ما سبق استدعى أمامي حوار بين نبي الله موسى، عليه السلام، وقومه في قصة البقرة التي أمرهم أن يذبحوها لتكون الدليل الكاشف للقاتل الذي قتل أحد رجالهم، وما فعلوا أمره إلا بعد جدال عميق وتعنت شديد، مما يدل على جهلهم ومدى تكبرهم في الحق. فقد وردت آيات الحوار بين موسى وقومه في سورة البقرة من الآية 67 إلى الآية 71 في حوار قرآني بليغ المعاني والدلالة لإحقاق الحق وكشف الزيف.
فيبدأ الحوار بالآية 67 بقوله تعالى “وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ”. فنزلت الآية في قصة قتل رجل من قوم موسى، فأمرهم بذبح بقرة حتى يتبين القاتل، لكنهم ظنوا أن موسى يستهزأ بهم ويسخر منهم.
وقد بدأوا عنادهم وتكبرهم، وظهر ذلك في الآية 68 في قوله تعالى “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ”. فقد طلبوا من موسى أن يدع ربه يوضح لهم مواصفات تلك البقرة، فأجابهم موسى عن رب العزة بأنها بقرة ليست كبيرة السن ولا صغيرة “عفية”، فحالتها وسط (أي في منتصف العمر)، وطالبهم موسى ترك التشدد والتعنت.
ولطبيعتهم في المجادلة والمناورة عادوا ليسألوا موسى عن لون البقرة، مما زاد في تنطعهم واستقصاء في السؤال، وجاء ذلك في الآية 69 في قوله تعالى “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ”. وهنا أجابهم موسى عن لون البقرة بأن لونها أصفر فاقع (أي ناصع الصفار) تسر من ينظر إليها.
ولم يكتفوا بذلك مستمرون في جدالهم، مطالبين موسى بدعاء ربه ليوضح لهم مزيدا من المواصفات لأن البقر المتصف بالصفات المذكورة كثير فاشتبه عليهم أي بقرة يختارونها، أهي بقرة سائمة أم عاملة، فقد اشتبه عليهم جنس البقر.. فكان ذلك في الآية 70 في قوله تعالى “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ”.
ومع كل ذلك استمروا في جدالهم مع نبيهم موسى، ليصل معهم إلى المحطة الأخيرة من الجدال ليجيبهم عن رب العزة في الآية 71 في قوله تعالى “قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ”. وهنا ينهي معهم نبي الله موسى جدالهم ليخبرهم بأنها بقرة غير مخصصة للعمل في حراثة الأرض للزراعة، وغير معدة للسقي، وخالية من جميع العيوب، وليس فيها علامة من لون غير لون جلدها.
وبعد أن وجدوا أنفسهم أمام إجابة شافية ولا مجال لاستمرار المجادلة، قالوا لموسى “الآن جئت بالحق”، فاضطروا إلى ذبحها بعد طول المراوغة.. وقد أوشكوا ألا يقوموا بالذبح لعنادهم، وهكذا شددوا فشدد الله عليهم.
الشاهد في سرد هذا الحوار البليغ في كتابه عز وجل بين نبي الله موسى عليه السلام وقومه، أن المقاومة حقيقة، ومآلها إلى النصر مهما طال الزمن، ومهما دار من جدل بين مؤيد ورافض لها.. فلننظر إلى حركات المقاومة التحرر في العالم العربي (في مصر، والجزائر، واليمن، وليبيا، وفلسطين)، وفي أفريقيا، وفي دول أمريكا اللاتينية والتي سطر التاريخ بطولاتها إنتهاء بإعلان النصر على أيدي هؤلاء المقاومين.