“تحبَلُ خارج لبنان وتضَعُ مولودَها في لبنان ..” هذا ما قاله الرئيس صائب سلام خلال الحرب التي داَرَتْ عندنا سنة 1975.
وهكذا كان شأنُ لبنان عبْـر الزمان ، ولا مـرّة كان عندنا حبَلٌ بلا دنَس.
بعد حرب 1975 ، كما مِـنْ قبلها ، رحنا نبني ما هدمـوه وما هدمناه ، ثمَّ نتوسّل الأيدي البيضاء لإعادةِ البناء ، نقبّلُ اليـد وندعو عليها بالكسر . كلُّ ما نبنيـهِ بعد الحرب ندمّره بالتقسيط يوماً بعد يـوم ، ندمّره بالنزاع السياسي ، والنزاع المذهبي ، والنزاع الوطني حـول هويّـة لبنان وسيادة لبنان ، وها نحنُ مـرّة جديدة نقـفُ على الأطلال ، نتباكى ونتبارز حول الركام وميادين الحطام.
وإنْ شئتُ وصـفَ هذا المشهد بما هو أقرب إلى الإستيعاب ، أرى من المفيد اللّجوء إلى لغـة الشعر ، لأنّ الشعر المقفّـى يتميَّـز بالوزن ، والكثيرون عندنا قد فقدوا أوزانهم ، ونسأل :
متى يبلغ البنيانُ يوماً تمَامَهُ إذا كنتَ تبنيـهِ وغيرُكَ يهدمُ .
الأمبراطورية الرومانية الطويلة العمر في التاريخ ، إنهارَتْ خلال أيام واستغْرقتْ ألف عام إعادةُ بنائها ، ويُجمـعُ المؤرّخون بأنَّ سبب سقوط الأمبراطورية الرومانية يعود إلى : فساد المؤسسات الدستورية والقضائية والإقتصادية والعسكرية، وسيطرة الحاشية وأقارب البلاط.
عهد الرئيس ميشال عـون ، كان أشبهَ بالأمبراطورية الصغرى ، حين استطاع أنْ يحقّق إرساء تحالف مسيحي ـ شيعي مع حزب الله ، وتحالف مسيحي ـ مسيحي مع القوات اللبنانية ، وتحالف مسيحي ـ سنيّ مع تيار المستقبل ، وتفاهم مسيحي مع القيادات الدرزية ، إلاّ أنّ هذه التحالفات إنقلبت إلى خصومات ، فكان هناك مَـنْ يتحالفون حيناً مع الرحمان ، وحيناً آخـر مع الشيطان ، وكان ما كان من فساد في المؤسسات الدستورية والقضائية والإدارية والمالية والإقتصادية ، وكان ما كان من سيطرةٍ على الحكم من الخوارج وأهل الحاشية.
وهي الأسباب نفسها التي أدّت إلى انهيار الأمبراطورية الرومانية ، لأنها لم تسارع إلى انتشال نفسها من الأسباب التي أدّتْ إلى انهيارها . هذا يعني ، أنّ بناء الأمبراطوريات كبيرةً كانت أو صغيرة لا يتوقّف حصراً على توافـر الإمكانات ، بقدر ما يحتاج إلى تشابك سواعد البنائين في مواجهة الهدّامين ، بل أن يكون “الحجرُ الذي نبـذَه البنّاؤون رأساً للزاوية”(1) ، أي الحجر الذي يربُط حائطين معاً.
هذا هو المغذى المطروح أمام الرئيس جوزف عون كعِبـرةٍ من الماضي.
بتعبير آخـر : بقدر ما يتحلّى رئيس الجمهورية بالحكمة والنزاهة والتجـرّد وسداد الرأي واستبعاد الحاشية ، بقدر ما يكون رئيساً حكَماً ، والمثال الأعلى الذي يقتدي بـه الصالحون ويخافـه الفاسدون ، فيتألّب حوله الشعب ويحقّـق الإصلاح بقوة القانون وعقاب المحاسبة.
هناك من يرى أن الرئيس جوزف عون جديـرٌ بأنْ يتشبّه بالحكم الشهابي.
الحكم الشهابي جسَّدَهُ الأمير بشير الثاني بالإصلاح الإداري والتسامح الديني ، “فكان مسيحياً بالمعمودية ، مسلماً بالزواج، درزياً بالتعامل”(2) ، والرئيس الأمير فؤاد شهاب استكمله بالإصلاح الإداري والترفّـع عن التطرّف الديني ، حتى قال السفير “جوني عبده” : “إنّ هناك مَـنْ كان ينصح الرئيس شهاب بأنْ يتناول القربان في قداس جامع على مرأى من الناس ليتأكّدوا أنـه ماروني” ، ومارونية فؤاد شهاب المسيحية ـ الإسلامية هي التي أمّنت حقوق المسيحيين من ضمن حقوق جميع اللبنانيين.
يقول الرئيس جوزف عون : “نحن في مرحلة جديدة ، عانيَنْـا الكثير من الويل ولا عودة إلى الماضي”، فهل يكسب الرئيس جوزف عون الرهان ، حتى لا يعود مستقبل لبنان يخجل بمن سبق من ماضيه …؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 ــ مزمور : 118 ــ 22 .
2 ــ تاريخ لبنان ــ فيليب حتي : ص : 506.
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.