لم يتخيل سمير سليم المتطوع مع ثلاثة من أشقائه في صفوف “الخوذ البيضاء” أنه قد يجد نفسه يوماً عاجزاً عن سحب والدته من تحت الركام، بعدما أمضى السنوات الأخيرة يطارد الغارات لإنقاذ مدنيي الغوطة الشرقية المحاصرة قرب دمشق.
ويقول سليم (45 عاماً) بينما تغرورق عيناه بالدموع “كان الموقف صعباً جداً بالنسبة لي، من المؤلم أن يكون لأم أربعة أبناء متطوعين في الدفاع المدني ولا يتمكنون من إنقاذها”. ويضيف الشاب “كانت أمي فخورة جداً بنا وبعملنا”.
ومنذ العام 2013، تشابهت يوميات سليم على غرار كافة المتطوعين في “الخوذ البيضاء”، الدفاع المدني في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة. يلاحقون الغارات التي لا ترحم سكان الغوطة الشرقية، يبذلون قصارى جهدهم لإنقاذ الجرحى وسحب الجثث من تحت الركام.
لكن الخميس الماضي تغير كل شيء، حين وجد نفسه عاجزاً عن إنقاذ والدته اثر غارة لقوات النظام استهدفت منزل العائلة في مدينة مديرا.
وفي مقطع فيديو تم تداوله على نطاق واسع عبر الانترنت، تظهر والدة سليم مرتدية حجاباً أسود اللون ومعطفاً رمادياً وهي تحني جسدها كما لو أنها تغفو متكئة على كنبة، فيما سقط الجدار بأكمله على ظهرها ورأسها. وتغطي الدماء احدى يديها.
ويسمع في الخلفية بكاء سليم وهو يناشد أحد زملائه احضار معدات لسحب والدته قبل أن يقول “أنقذ الناس يا أمي ولا أتمكن من انقاذك، ماذا أفعل يا أمي؟ حسبي الله ونعم الوكيل”.
وشهدت الغوطة الشرقية منذ مطلع الأسبوع خمسة أيام من القصف الجوي الكثيف من قوات النظام، تسبب بمقتل 250 مدنياً واصابة اكثر من 775 آخرين بجروح، وفق حصيلة للمرصد السوري لحقوق الانسان، قبل أن تتراجع وتيرة القصف في الايام اللاحقة.
حنان الأم
وفي تقرير نشرته صحيفة “العرب” اللندنية، يتذكر سليم بحزن شديد ما حدث اثناء تجوله فوق ركام المنزل المدمر “توجهنا يومها الى بلدة مسرابا بعدما استهدفتها غارة، وعند دوي غارة ثانية شعرت بأمر غير طبيعي في جسمي وكأن قلبي يقول لي حدث مكروه في منزلك”.
ويتابع “انقسمنا فريقين ولحقت الضربة الثانية، وصلت أمام منزلي، كان الغبار يملأ المكان. وقفت دقيقة في مكاني لافهم ما الذي حصل وأدرك بعدها أن الضربة على منزلي. لم أتوقع أن أجد أحداً على قيد الحياة”.
بعد مباشرته العمل، تمكن سليم من انقاذ ابن شقيقه سامر (23 يوماً)، ثم والده وزوجة أخيه حتى وصل الى والدته التي كانت عالقة تحت الأنقاض.
ويروي بحزن شديد “طلبت مؤازرة رفاقي لكنهم تأخروا قليلاً وأعذرهم جراء حملة القصف الهستيرية حينها على المنطقة”.
ورغم أنه خاض تجربة مشابهة حين أنقذ والده قبل عامين من قصف مماثل، لكنه يقول “لم أرتبك كما في هذه المرة، ربما السبب حنان الأم”.
واذا كان سليم عجز عن انقاذ والدته، إلا أن الحظ كان حليف المتطوع في الدفاع المدني سعيد المصري الذي تمكن من انقاذ طفله الرضيع يحيى بعدما دمر القصف منزله في مدينة سقبا.
ويروي تفاصيل ذلك اليوم ويقول “كما جرت العادة توجهنا الى مكان الضربة رأيت البيوت وقد سويت بالارض. ابن عمي استشهد وبيتي مضروب. انتابني شعور بأن ابني قد مات أو زوجتي”.
لكن سماع صوت زوجته وهي تصرخ أفاقه من صدمته، ويتابع “كانت تصرخ بأن يحيى قد أصيب. عندما وجدته حملته وركضت به الى المشفى. كان مصاباً في رأسه ووجهه”.
وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي الأربعاء صورة تظهر المصري بزيه الكحلي والأصفر يركض وسط مكان يحجب الغبار الرؤية فيه، ويضم رضيعه الذي تسيل الدماء من رأسه الى صدره وهو يبكي.
وكررت الأمم المتحدة في الأسبوع الأخير دعوتها الى هدنة انسانية تشمل الغوطة الشرقية التي تحاصرها قوات النظام بشكل محكم منذ العام 2013، تمهيداً لادخال المساعدات واخلاء الجرحى والحالات الطبية الحرجة.
شعرت بوخز الإبرة
داخل مشفى في بلدة جسرين، يتمدد الممرض مالك أبو جابر (20 عاماً) على أحد الأسرة بينما يعمل زميله على تغيير ضماد موضوع على بطنه، وقربه عدد من الأطفال المصابين.
ويتذكر أبو جابر لحظة إصابته بعد دقائق من مغادرته المستشفى قبل أكثر من أسبوع “كنت بصدد التوجه الى منزلي لأخذ قسط من الراحة وكان القصف قائماً”.
ويضيف “وجدت نفسي فجأة تعرضت لشيء ساخن رماني الى الخلف. لم أعرف ماذا أصابني قبل أن أجد الدماء تسيل من بطني وتملأ الأرض”.
بعد نقله الى المستشفى، وجد أبو جابر نفسه مكان من اعتاد على علاجهم، هو الذي كان يخبر أحد زملائه قبل ساعات أن عمليات البطن هي أكثر ما يخشاه لصعوبتها وتداعياتها.
ويقول “شعرت بإحساس الجريح الذي يأتي كل يوم. شعرت بوخز الإبرة التي اضعها له، بالجرح الذي أخيطه، بضماده، بالمعاناة الحقيقية للجرحى”.
ورغم الألم الذي يشعر به جراء اصابته، يحتفظ الممرض الشاب بابتسامته ويصر على معاونة الكادر الطبي الذي يعمل وسط ظروف صعبة للغاية ومن دون توقف.
ويقول “لا نتمكن من التقاط أنفاسنا، يأتي الجرحى ليلاً ونهاراً والضغط هائل علينا. لكننا رغم كل ذلك نواجه الغارات بأداء واجبنا”.