توقفت آمال سيريل رامافوسا بعد قضاء جنوب إفريقيا على نظام الفصل العنصري، في الحصول على أكبر وظيفة في البلاد؛ حيث فشل في تأمين تذكرة حزب المؤتمر الوطني للترشح إلى خلافة الرئيس نيلسون مانديلا في عام 1999م. فاختار بدلاً من ذلك خوض الأعمال التجارية، وهي الخطوة التي جلبت له ثروة هائلة وجعلته من أغنى الأغنياء في إفريقيا.
غير أنَّ إعلان الرئيس جاكوب زوما يوم الأربعاء الماضي أنه سيستقيل فورًا من منصبه، بعد قرار من المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم باستدعائه، وسحب الثقة منه في البرلمان؛ مهَّد الطريق أمام رامافوسا، وأزال العقبات ليصل إلى القمة التي طالما كان يتطلع إليها منذ فترة؛ الأمر الذي يمثل نقطة تحوُّل له، وخصوصًا في ظل الصراعات التي عاناها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في عهد سابقه زوما.
فكان الصعود الكبير الذي حقَّقه رامافوسا البالغ 65 عاما؛ كزعيم لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي بعد مؤتمره العام في ديسمبر 2017م, وكرئيس لجنوب إفريقيا في نهاية المطاف.
وُلِدَ رامافوسا في 17 نوفمبر 1952م في بلدة سويتو غرب جوهانسبرغ، وهي مركز للنضال المناهض للفصل العنصري. وانخرط في السبعينيات في النشاط الطلابي أثناء دراسة القانون.
وقد وصف مانديلا مرة رامافوسا بأنه واحد من أكثر القادة موهبة من “الجيل الجديد”؛ الناشطين الشباب الصاعدين في عقد 1970م وعقد 1980م، الذين يملأون الفراغ الذي تركه شيوخهم المسجونون.
انتخاب رامافوسا رئيسًا للبلاد:
استقال جاكوب زوما ليلة الأربعاء الماضي من منصبه الرئاسي تحت ضغوطات مكثفة من حزبه المؤتمر الوطني الإفريقي، ليترك بالاستقالة كلا من قيادة الحزب وزمام أمور ثاني أكبر اقتصاد في القارة الإفريقية في يد نائبه السابق والرئيس الجديد رامافوسا.
وقد أدَّى نائب الرئيس السابق اليمين الدستورية كخامس رئيس لجنوب إفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري, بعد انتخابه بالإجماع مِن قِبَل البرلمان ليحل محل زوما الذي غادر بعد سلسلة اتهامات بالفساد وسوء الإدارة الاقتصادية. معلنًا في خطاب ألقاه بعد الانتخاب أن “هدفنا هو مواصلة تحسين حياة شعبنا”.
وكان من المقرر أن يلقي سلفه زوما قبل حوالي ثمانية أيام, خطابًا سنويًّا للأمة عن الوضع في البلاد، إلا أنه تم تأجيله للسماح لـرامافوسا زعيم الحزب ومسئولين كبار آخرين بالحزب بالتفاوض حول رحيله؛ أي زوما.
وفي أول خطاب رئيسي لرئاسته يوم الجمعة, استدعى سيريل رامافوسا ذكرى ورسالة نيلسون مانديلا؛ حيث تعهَّد بالنمو الاقتصادي، ومحاربة الفساد، ومعالجة عدم المساواة الراسخة في جنوب إفريقيا.
“استرشادا بمثال (مانديلا)، سنستخدم هذا العام لتعزيز التزامنا بالسلوك الأخلاقي والقيادة الأخلاقية. إننا لا نكتفي بتجسيد الماضي بل ببناء المستقبل … جنوب إفريقيا ملك لكل مَن يعيشون فيها.
وتابع قائلاً: “إنه فجر جديد مستوحًى من ذاكرتنا الجماعية لنيلسون مانديلا، والتغيرات التي تتكشف.. سنبني أمة جديدة، ونواجه مظالم الماضي وعدم مساواة الحاضر”.
وقد حضر الرئيسان السابقان ثابو مبيكى وفو دي كليرك في صالة الجمهور، لكنه يلاحظ غياب الرئيس جاكوب زوما، على الرغم من أنه مدعوٌّ للحضور، لكنه لم يستجب للدعوة.
التحديات التي تواجه الرئيس الجديد:
تفيد التقارير بأنه تم تسييس وإضعاف عدد من أهم المؤسسات العامة في البلاد خلال التسع السنوات مدة حكم زوما. وقد تم اتهامه في سلسلة من فضائح الفساد. وانخفض الاقتصاد إلى الانكماش. وبلغ معدل البطالة أعلى مستواه في 14 عامًا.
وعليه يمكن القول بأن البلد الذي ورثه رامافوسا لا يزال بعيدًا عن البلد الذي تصوّره نلسون مانديلا, الذي وعد بالازدهار المشترك، والانسجام العرقي عندما بدأ هو عهدًا جديدًا للبلاد.
وعلى هذا الأساس, يمكن القول بأن هناك توقعات عالية من الرئيس رامافوسا؛ حيث يتطلع المسئولون في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي إلى أن يُحسِّن شعبية الحزب المتدنية التي قوَّضها عهد زوما, وهو الحزب الذي قاد الكفاح ضد الفصل العنصري، وظل في السلطة منذ أن أصبح مانديلا رئيسًا بعد أول انتخابات حرة في جنوب إفريقيا عام 1994م.
التصدي للفساد وإنقاذ المؤسسات الحكومية: وبينما أشار رامافوسا في خطابه إلى أنه سيتبنى “اليقين والاتساق” في المواقف السياسية – على النقيض من زوما الذي كثيرًا ما انتُقد بسبب التغييرات التى لا يمكن التنبؤ بها في السياسة وأعضاء مجلس الوزراء, فقد تعهد أيضًا بمحاربة الفساد.
“هذا هو العام الذي سنحول فيه المدّ ضد الفساد في مؤسساتنا العامة”؛ قال الرئيس رامافوسا في أول خطاب له مضيفًا أن “مؤسسات العدالة الجنائية تتخذ مبادرات تمكننا من التعامل بفاعلية مع الفساد”.
وقد أشارت التحقيقات التي أجراها المحامي العام والمراجع العام لجنوب إفريقيا أن الفساد متوطن في البلاد، إذ يتم سرقة أو نهب عشرات المليارات من الراند كل عام. وكان المسئولون الذين تم تعيينهم من قبل زوما هم الذين يتولون رئاسة جميع وكالات تنفيذ القانون التي كانت بطيئة أو مستعصية للتصرف ضد بعض من أقرب حلفاء زوما الذين تورطوا في النهب الجماعي الممنهج للثروة.
ويتعين على الرئيس الجديد أن يقيل العديد من المسئولين الرئيسيين، وأن يعيد تأكيد الثقة في استقلال وسلامة نظام الملاحقة الجنائية ضد السياسيين الذين لا يزالون يحتلون مناصب عالية في الحكومة. وأن يبين أن الحكومة عازمة على ضمان محاسبة جميع من تثبت إدانتهم بالفساد.
كما أن من إحدى الخطوات التي يجب لرامافوسا اتخاذها؛ هو تعيين مجلس إدارة جديد لشركة طاقة الكهرباء الوطنية “إسكوم” – لكونها الأكثر تعرضًا للأزمة من بين الشركات المملوكة للدولة. إضافة إلى اهتمامه ومساعدته في تعيين مسئولين أكفاء في عدد من المناصب الإدارية العليا للشركات الأخرى المملوكة للدولة.
التنمية الاجتماعية والنموّ الاقتصادي: ليس هناك شيء أكثر أهمية بالنسبة لجنوب إفريقيا – ورامافوسا كرئيس للبلاد – من النمو، وترجمة هذا النمو إلى خلق فرص للعمل. وهذا بدوره يتطلب استثمارًا محليًّا وأجنبيًّا، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال اليقين في السياسة، والتحرك السريع نحو قيادة جديدة. كما يتطلب شراكة إيجابية مع القطاع الخاص.
وتنص وكالة التنمية الوطنية في جنوب إفريقيا على ضرورة تحقيق معدل نمو اقتصادي قدره 5,4 في المائة في المتوسط لمعالجة معدل البطالة البالغ 27 في المائة.
لكن البنك المركزي يتوقع زيادة وتوسعًا بنسبة 1.4٪ فقط في 2018م و 1.6٪ فقط في 2019م. ولا شك أن قرارات السياسة العامة ستساهم بشكل فعَّال في تعزيز ثقة الأعمال والاستثمار الدولي في جنوب إفريقيا. وهذا ضروري بصفة خاصة في صناعة التعدين؛ حيث يمثل هذا القطاع نصف صادرات جنوب إفريقيا.
وفي عام 2017م خفَّضت وكالة “فيتش” للتصنيفات و “ستاندرد آند بورز جلوبال”, ديون جنوب إفريقيا إلى الديون غير المرغوب فيها, وذلك بعد أن أقال زوما “نهلانهلا نيني”، ثم “برافين غوردهان” كوزيرَي المالية في البلاد. وبحسب بلومبرغ, وضعت خدمة “موديز” للمستثمرين دولة جنوب إفريقيا في حالة المراجعة لتخفيضها في نوفمبر، ومن المقرر أن يُسلم تقييمها للبلاد في مارس.
ومما يجدر ذِكْره أن سوق الأسهم في جنوب إفريقيا قفز إلى نسبة 4 في المائة بعد أخبار استقالة الرئيس السابق جاكوب زوما، وانتخاب رامافوسا. إلا أن هذا لا يكفي؛ إذ من المطلوب أن يقوم الرئيس الجديد بإنشاء فريق جديد من شأنه أن يعالج الفساد، ويبني النمو، ويَحُدُّ من العجز في الميزانية.
وستكون أيضًا مبادرة التعليم العالي المجانية التي أعلنها زوما قبل استقالته واحدة من الأشواك الرئيسة في طريق رامافوسا؛ حيث لا توجد ميزانية لهذه المبادرة على الرغم من إقرارها من قِبَل الحزب الحاكم. مما يعني أن شعب جنوب إفريقيا ينتظرون تنفيذ المبادرة من رامافوسا، وكيف سيعالج مسألة تأمين الأموال لمساعدة طلاب التعليم العالي.
ويبدو أن الرئيس الجديد نفسه يدرك أهمية كل ما سبق؛ إذ سعى في خطابه -خلال الإشادة بإنجازات حزبه المؤتمر الوطني الإفريقي في السنوات الأخيرة – إلى طمأنة المستثمرين الأجانب.
“إن مهمتنا هي اغتنام هذه اللحظة من الأمل. سنبدأ هذا العام في اتخاذ تدابير جديدة لوضع هذا البلد على طريق جديد .. ولبناء نهضة اقتصادية, يتعين اتخاذ قرارات صعبة”، واعدًا بـ” قمة عمل” لتعزيز فرص العمل.
ومن شأن التدابير الأخرى المأمولة أن تعزِّز فرص عمل للشباب في الشركات الناشئة والتعدين وصناعة السياحة. وقال الرئيس: إنه سيتم تطبيق الحد الأدنى للأجور في وقت لاحق من هذا العام، مما سيؤثر على 6 ملايين جنوب إفريقي، بالإضافة إلى مبادرات لمعالجة الجريمة المتزايدة.
تسوية الخلافات داخل المؤتمر الوطني الإفريقي: يرى الكثيرون إمكانية خسارة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في الانتخابات البرلمانية التي ستُجْرَى في العام القادم في جنوب إفريقيا؛ وذلك نظرًا لما آلت إليه صورة الحزب في فترة حكم زوما، وأدت إلى تآكل الدعم الشعبي للحزب, إضافة إلى الانقسامات المتزايدة بين زعماء وقادة الحزب في عدة مقاطعات.
وسيحتاج رامافوسا إلى لمِّ شمل مواطني البلاد, واستعادة مصداقية الحزب بتعيين أفراد قادرين على أداء أدوار رئيسة دون تجاهل حلفاء زوما السابقين الذين لا يزالون يتمتعون بالنفوذ في الدوائر الانتخابية الرئيسة.
“إننا نعرف أنه مازال هناك الكثير الذي يفرِّقنا. وما زلنا مجتمعنا غير متكافئ إلى حد كبير؛ حيث لا يزال الفقر والازدهار محددًا بحسب العرق والجنس”؛ قال رامافوسا.
ولعل الرئيس الجديد يعرف تمامًا حجم المهام، وصعوبة التحديات القائمة، والفرص التي قد تحملها رياح التغيير؛ إذ اختتم خطابه بقوله: “في حين أن التغيير يمكن أن يؤدي إلى عدم اليقين، أو حتى القلق، فإنه يوفر أيضًا فرصًا كبيرة للتجديد والتنشيط، والتقدم”.