بعد موجة نزيف الاستقالات والإقالات التي طالت قيادات تاريخية في حركة النهضة متنفذة تنظيميا وسياسيا تسلل النزيف إلى أوساط مقربة من رئيس الحركة راشد الغنوشي، حيث استقال قياديان أولهما مسؤول عن التنظيم وثانيهما مسؤول عن الإعلام.
ومساء الأربعاء أعلنت النهضة في بيان مقتضب أن رئيس الحركة قبل “استعفاء” محمد القلوي من الإشراف على مكتب الهياكل وشؤون العضوية بالحزب وتكليف بدرالدين عبدالكافي خلفا له للإشراف على المكتب بالنيابة.
كما أعلنت عن قبول “استعفاء” جمال العوي من الإشراف على مكتب الإعلام والاتصال وتعيين عماد الخميري خلفا له للإشراف على المكتب بالنيابة.
وقالت الحركة في بيان إن كل من محمد القلوي وجمال العوي هما من طلبا التخلي عن المنصبين لأسباب خاصة، مشيرة إلى أنه سيتم دعوة المستعفين إلى مهام قيادية أخرى.
ولم يقدم البيان المزيد من التفاصيل خاصة أنه يتعلق بقياديين يديران ملفين هامين يوليهما الغنوشي أهمية خاصة وهما ملف التنظيم الذي يشمل كوادر وقواعد الحركة في مختلف جهات البلاد وملف الإعلام الذي يراهن عليه لتلميع صورة النهضة.
ورغم إشارة البيان إلى أن القياديين هما من طلبا الاستقالة إلا أن قراءات في مضمون البيان تظهر غموضا بهذا الشأن خاصة وأنه تم استعمال مفهوم “الاستعفاء” الذي يستبطن استغناء عن خدمات القياديين المتنفذين.
وخلال الفترة الماضية أقال الغنوشي عددا من القيادات التاريخية وفي مقدمتهم الصادق شورو والحبيب اللوز الغاضبين على طريقة قيادته للحركة غير أنه لم يصدر أي بيان رسمي من الحركة يؤكد الإقالة أو يوضح خلفياتها وأسبابها.
ويقول المتابعون لشؤون النهضة إنه “في حال غضب الغنوشي على أي قيادي لسبب من الأسباب تمارس عليه العديد من الضغوط بما في ذلك سحب الملف المكلف به ليجد نفسه في وضع “إقالة فعلية” ويضطر في نهاية الأمر إلى تقديم “الاستقالة” إلى الغنوشي.
وبقطع النظر عما إذا كان “الاستعفاء” خيارا أم إكراها فإن استقالة القياديين أثارت مدى ارتباك الغنوشي في إدارة الهياكل التنظيمية وفي إدارة ملف الإعلام والاتصال.
ويؤشر استعفاء محمد القلوي، كما يذهب إلى ذلك متابعون للنهضة، على مدى تململ كوادر وقواعد التنظيم الغاضبة على مفاضلة الغنوشي رئاسة غالبية القائمات الانتخابية من قبل مستقلين في حين ترى تلك الكوادر أنها الأولى برئاستها.
ولا يتردد العديد من تلك القيادات التي واكبت مختلف المراحل التي مرت بها النهضة في اعلان تعرضها إلى سياسة تهميش ممنهجة من قبل القيادة.
ويقول جمال العلوي وهو نهضاوي سابق وأستاذ الحضارة الإسلامية “إن المئات من القواعد هجرت النهضة منها من التحق بالجماعات السلفية ومنها من التحق بالحركات الصوفية ومنها من لاذ بالصمت مكتفيا بارتياد المساجد”.
وأضاف لمراسل ميدل ايست اونلاين “هناك غضب على الغنوشي لكونه ركز دائرة ضيقة مقربة منه تتكون من جيل جديد على حساب الأجيال التي ساهمت في بناء الهياكل التنظيمية لكنها وجدت نفسها مهمشة تنظيميا وسياسيا”.
وعلى الرغم من تأكيد القيادات المقربة من الغنوشي بأن الهياكل التنظيمية للحركة ما زالت محافظة على تماسكها إلا أن الواقع يفند هذا الرأي حيث هجر العديد من القيادات مكاتبهم بمقر الحركة بالعاصمة فيما تفرقت الكوادر والقواعد لتكتفي بمتابعة أخبار الحركة.
وبقدر ما يمثل “استعفاء” محمد القلوي من إشرافه على الهياكل التنظيمية ضربة موجعة للغنوشي بقدر ما يمثل “استعفاء” جمال العوي من إشرافه على ملف الإعلام والاتصال فشل الحركة في التعاطي مع حرية الإعلام وحرية الرأي والتعبير بصفة عامة.
وخلال الأشهر الماضية وفرت النهضة تمويلات لعدد من الصحفيين الموالين لها لتركيز مواقع الكترونية في مسعى إلى تلميع صورتها ومواجهة وسائل الإعلام التي ما انفكت توجه انتقادات لاذعة للحركة إما مباشرة أو من خلال فسح المجال لخصومها العلمانيين.
وفي ظل موجة الانتقادات اللاذعة كان راشد الغنوشي قد لوح بمقاضاة عدد من الإعلاميين ووسائل الإعلام متهما إياها بتشويه النهضة والتحريض وتشويه قياداتها.
وتقول أوساط إعلامية مقربة من النهضة إن “استعفاء” جمال العوي جاء على خلفية رفضه التوجه نحو مقاضاة الإعلاميين ووسائل الإعلام وتفضيله ممارسة النهضة حق الرد وفق الاجراءات القانونية المعمول بها شأنها في ذلك شأن الأحزاب السياسية الأخرى.
وخلافا لتوقعات الغنوشي التي تهدف إلى ترهيب الإعلاميين لم يقد تلويحه بمقاضاة من “يشوه النهضة” سوى إلى تعميق الفجوة بين الحركة ووسائل الإعلام المتمسكة بحرية الرأي والتعبير ورفضها لأي ضغوط أو الوصاية حتى وإن كانت صادرة عن الحكومة.
وعلى الرغم من أن النهضة تعتبر من الأحزاب السياسية الثرية فقد فشلت فشلا ذريعا في تركيز مؤسسات إعلامية خاصة بها تدافع عن صورتها حتى أن عددا من قياداتها بات لا يستنكف في استجداء مقدمي البرامج الحوارية التلفزيونية لإشراكهم فيها.
ويواجه الغنوشي العقائدي جيلا جديدا لا يولي أهمية كبرى للمسائل العقائدية بقدر ما يركز اهتماماته على النشاط السياسي وإشراكه في صناعة قرارات الحركة سواء تعلق منها بشأن الحركة الداخلي أو تلك التي تهم علاقة النهضة بالمشهد السياسي العام.
ويجاهر الجيل البراغماتي الذي يسعى إلى مد جسور مع القوى الديمقراطية بأنه من غير المقبول أن يتحدث الغنوشي عن الديمقراطية وهو يرأس النهضة منذ 40 عاما.
ويرى مراقبون في “استعفاء” كل من محمد القلوي وجمال العلوي “مؤشرا على أن الدائرة الضيقة من القيادات المقربة من الغنوشي بدأت تتفكك سواء من خلال الاستقالة أو الإقالة لتسحب شيئا فشيئا من تحت أقدام الغنوشي سطوته على الحركة.
وقالوا “إذا فشل الغنوشي في إحكام قبضته على الهياكل التنظيمية من جهة وفي التعاطي الإيجابي مع وسائل الإعلام من جهة أخرى، فإن ذلك لا يعني سوى فشله في فرض سطوته على إدارة شؤون الحركة وهو ما تجاهر به عديد القيادات الغاضبة”.