تشهد الصين في الوقت الحالي توافد رؤساء ومسئولي الحكومات من جميع أنحاء إفريقيا إلى مدينة بكين لحضور قمة رفيعة المستوى تستضيفها الحكومة الصينية – “منتدى التعاون الصيني الإفريقي Forum on China–Africa Cooperation ” – أو “FOCAC” باختصار – وهي عبارة عن لقاء بين الشريكين للتركيز على طرق زيادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثنائية بين الصين والدول الإفريقية.
وإذ كان من المقرَّر أن تبدأ أعمال القمة رسميًّا في 3 سبتمبر حتى 4 سبتمبر؛ حيث نسخة هذا العام من القمة تحت عنوان “الصين وإفريقيا: نحو مجتمع أقوى مع مستقبل مشترك من خلال التعاون المربح للجانبين”, فإن القمة يُنظر إليها كحدث دبلوماسي رئيس استضافته الصين هذا العام، وحضره أكبر عدد من الزعماء الأجانب حتى الآن. كما أن القادة الإفريقيين الذين وصلوا إلى بكين خلال الأيام الماضية قد عقدوا بالفعل مستويات مختلفة من المحادثات مع نظرائهم الصينيين لتوقيع صفقات واللقاءات مع المستثمرين.
خلفية تاريخية موجزة:
لقد اعتاد البعض أن يطلقوا على “العلاقات الصينية – الإفريقية المعاصرة” مصطلحات عديدة أبرزها: “إجماع بكين”؛ والذي يشير إلى السياسات الاقتصادية والسياسية التي تبنَّتها جمهورية الصين الشعبية بعد وفاة “ماو تسي تونغ” في عام 1976م. غير أن العديد من الباحثين لا يستخدمون المصطلح عند الحديث عن العلاقات الصينية – الإفريقية, وخصوصًا أنه لم يرد قط في حديث المسؤولين الصينيين، ولم يظهر في أيٍّ من الوثائق الحكومية الرسمية في الصين.
ويرى الباحث والخبير في العلاقات الإفريقية الصينية “أمبروز دو بليسيس” أن هناك عدة أسباب أدت إلى إشراك الصين وإفريقيا بعضهما البعض في نهاية الحرب الباردة؛ إذ أصبح دور الصين كقوة ناشئة واضحًا من حيث تقديم المعونة والمساعدة الإنمائية لـ”الدول النامية”. وكان عدم اليقين الذي تميَّزت به حقبة ما بعد الحرب الباردة، وخصوصًا فيما يتعلق بوضع إفريقيا في السياسة العالمية جعل معظم الدول الإفريقية مضطرة إلى النظر في كيفية التطوُّر السياسي والتقدم الاقتصادي والتنموي.
يضاف إلى ما سبق أن الدول الإفريقية أدركت أهمية الصين كشريك اقتصادي حيوي بسبب تجاهل القارة مِن قِبَل الغرب أثناء الحرب الباردة وبعدها؛ حيث إن هذه الدول الغربية لم تساعدها قط على النهوض وتخطي الكوارث التي خلَّفتها الأنشطة الكولونيالية – اللهم إلا بشروط يصفها القادة الإفريقيون بـ”إخضاعية” و”نيو-كولونيالية”.
إن الأسباب السابقة وغيرها من العوامل جعلت الصين بالنسبة لإفريقيا شريكًا لا يُقَدَّر بثمن – حتى في خِضَمِّ الأزمات المالية العالمية؛ إذ تستمر العلاقات بين الصين وإفريقيا من مرحلة قوية إلى أقوى. وتستند العلاقات المعاصرة بين الصين وإفريقيا على جدول الأعمال الذي وضعه “منتدى التعاون الصيني الإفريقي” (FOCAC) في عام 2000م، والذي مهَّد الطريق أمام عملية تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الصين وإفريقيا في السنوات التالية.
وقد عُقِدَتْ حتى الآن قمتان من هذا المنتدى الذي خُطِّطَ بأن يُجرَى كل ثلاث سنوات –آخرها في ديسمبر عام 2015م في جوهانسبرغ بجنوب إفريقيا. بينما عقدت القمة الأولى في نوفمبر 2006م عندما زار قادة أكثر من 40 دولة إفريقية العاصمة الصينية بكين لحضور اجتماع القمة.
القمة الثالثة لـ”منتدى التعاون الصيني الإفريقي” (2018م):
تختلف أولويات وأجندات الحكومات الإفريقية في الماضي تجاه قمة “منتدى التعاون الصيني الإفريقي”؛ إذ يتوقف هذا المحفل قبل عقد مضى على جهود الصين لتأمين بعض السلع المهمة: كالنفط والنحاس من إفريقيا مقابل الاستثمار الصيني في البنية التحتية بالدول الإفريقية. لكنَّ الأجواء الراهنة في إفريقيا تتطلب من قادتها استغلال فرص القمة الثالثة (الجارية) للتخطيط على بحث طرق استراتيجية لعقد صفقات تتمحور حول خلق وظائف محلية والتركيز على المهارات والتكنولوجيا في مختلف دول القارة.
“نريد علاقة استراتيجية”؛ تقول كاميسا كامارا، مستشارة السياسة الخارجية للرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا. و”ليس (ما نريده) مجرد بناء جسر لنا فنقدِّم لك المال”.
في اجتماع المنتدى الأخير عام 2015م، تعهَّد الرئيس الصيني “شي جين بينغ” بتقديم 60 مليار دولار من المِنَح والقروض لإفريقيا – القارة التي سيتضاعف عدد سكانها بحلول عام 2050م ويُعَدُّ سكانها الأصغر سنًّا والأسرع نموًّا في العالم.
وفي رأي “لوسي هورنبي”، و”ديفيد بيلينغ”, الكاتبين في “فايناشيال تايمز”, فإن الدفع الصيني للدول الإفريقية يساهم في تقويض نفوذ القوى الكولونيالية السابقة. ويمكن أن يؤدِّي التعامل الإفريقي مع الصين إلى تحسين وضع المساومة للدول الإفريقية مع أوروبا والولايات المتحدة وحتى مع “الدول النامية” الأخرى كالهند أو تركيا.
“العلاقات مع الصين تعيد توازن علاقتنا غير المتوازنة”؛ هكذا قالت كامارا، “نأمل أنه عندما يرى آخرون الصين (وهي تستثمر) في مالي، سيهتمون هم أيضًا بالاستثمار”.
وتذهب حوالي 13 في المائة من الاستثمارات الصينية في إفريقيا إلى التصنيع – وفقًا لمبادرة الصين للبحوث الإفريقية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة “جونز هوبكنز”. وصارت القارة ساحة اختبار لمبادرات الصين الخارجية بدءًا من عملية حفظ السلام ومفاوضات الديون إلى بناء العلامات التجارية للمستهلكين.
بالإضافة إلى أن الصين دخلت واستثمرت في الدول التي يتجنبها المستثمرون الأوروبيون, أو الدول التي لا توجد بها سلع – كإثيوبيا الدولة السريعة النمو التي تتمتع باقتصاد شبه مركزي وتقدم نفسها كمركز تصنيع.
وفي عام 2009م, أصبحت الصين أكبر شريك تجاري لإفريقيا، وذلك باستيراد الشركات الصينية المزيد من السلع الإفريقية. وفي الوقت نفسه، تُشَكِّل السلع المصنعة في الصين أكثر من 80 في المائة من صادرات الصين إلى إفريقيا. ولكن مع تباطؤ الطلب على هذه السلع، اتسع عجز إفريقيا التجاري مع الصين. بل كان هذا العجز في عام 2016م يعادل عجز إفريقيا التجاري مع بقية العالم.
مخاوف العلاقات الصينية الإفريقية:
يؤكد الخبراء على أن جَذْب الوظائف التصنيعية منخفضة السعر التي تُسعَّر خارج الصين قد يصلح عجز الميزان التجاري لإفريقيا مع الصين، والذي يُعَدُّ مصدرًا للاحتكاك بين الصينيين والإفريقيين. وفي حين أدت استعادة أسعار النفط والسلع إلى التخلُّص من هذا الخلاف والاحتكاك، إلا أن الشركات الإفريقية تلقي اللوم على الواردات الصينية بأنها تَقضي على قطاعات التصنيع المحلية، وتضعف نهوض الشركات الإفريقية.
بل غالبًا ما تكون للصفقات الإفريقية مع الصين “ظروف اقتصادية صارمة”؛ حيث يجب بناء المشاريع بالعمالة والإمدادات الصينية، وفي كثير من الأحيان يجب أن تُدَار هذه المشاريع مِن قِبَل الصين لعدة سنوات.
وفي المقابل, يشكو البيروقراطيون الصينيون من أن الأسواق الإفريقية صغيرة للغاية ومجزأة بالنسبة للمشاريع الكبيرة التي يحبها ويفضلها مخططو الدولة الصينية. ويذكرون أن الدول الإفريقية لم تعطها بعد استراتيجية شاملة وواقعية، وأن هذه الدول ترفض تقديم خطط إقليمية للتنمية المتكاملة.
“لدى الجانبين مصالح مشتركة؛ على سبيل المثال، تعتبر بعض القدرة الفائضة التي تمتلكها الصين هي القدرة التي تحتاجها إفريقيا”، تقول “شن شياولي”، الباحثة في “الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية” لـ”فاينانشيال تايمز”: “إن السوق الإفريقية بعيدة كل البعد عن النضج في معظم المدن بسبب عدم وجود الطبقة المتوسطة، ولكن من المحتمل أن تكون سوقًا كبيرة جدًّا”.
وكالعادة, يواصل الساسة الأمريكيون دقّ أجهزة الإنذار حول الاعتماد الإفريقي “المفرط” على التمويل الصيني، حتى وإن كان المحللون الذين يدرسون العلاقات الصينية الإفريقية لا يرون سوى فرص جديدة للقادة الأفارقة للتفاوض حول صفقات تخدم مصالح بلدانهم بشكل أفضل.
وأفاد تقرير لـ”إذاعة صوت أمريكا”، أن 16 من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي أرسلوا في الشهر الماضي رسالة إلى وزير الخزانة الأمريكي “ستيفن منوشين” ووزير الخارجية مايكل بومبو وهم يثيرون فيها “مخاوفهم” بشأن الإقراض الصيني المرتبط بتطوير البنية التحتية حول العالم.
أما في وجهة نظر “لينا بنعبد الله Lina Benabdallah”, الأستاذة المساعدة في السياسة والشؤون الدولية بجامعة “ويك فورست”, فتعكس هذه الرسالة القلق المتزايد بشأن استراتيجية الصين للبنية التحتية والتي يطلق عليها “مبادرة الحزام والطريق”.
“لا أعتقد أن الأمر يتعلق بهذه الدول المستفيدة بقدر ما هو لعبة السلطة والقوة بين الولايات المتحدة والصين حول هذا النوع من الهيمنة العالمية”؛ هكذا قالت “بنعبد الله”, مضيفةً أن هذا لا يعني أن المخاوف بشأن صفقات إفريقيا مع الصين ليست مبررة؛ إذ قد تواجه العديد من الدول صعوبات في سداد القروض.
وتشير دراسة نشرتها مبادرة أبحاث إفريقيا – الصين بجامعة “جونز هوبكنز” الشهر الماضي, إلى أن الصين تمثِّل جزءًا صغيرًا فقط من عبء الديون الإجمالي لإفريقيا. ووجد الباحثون في ثلاث حالات فقط – جيبوتي، جمهورية الكونغو وزامبيا – أن القروض الصينية هي المساهم الرئيس في مخاطر ديون هذه الدول.
ومن الأمثلة التي يقدمها أصحاب المخاوف، ويحذرون منها الدول الإفريقية: ما حدث لـ”سريلانكا” في ديسمبر 2017م؛ حيث لقي تعامل الصين مع هذه الدولة الجزرية في جنوب آسيا استياء وانتقادات واسعة لعدم استطاعتها دفع ديونها للصين. وحسبما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز: أعادت الصين التفاوض بشأن شروط الديون المستعصية مع سيريلانكا، مقابل الحصول على ملكية ميناء “هامبانتوتا” و 15 ألف فدان من الأراضي المحيطة على شكل عقد إيجار لمدة 99 عامًا على هذه الممتلكات.
“وقد جلب هذا (الحدث) بعض المخاوف السيادية”؛ هكذا قال لوك باتي، باحث كبير في المعهد الدانمركي للدراسات الدولية, وأضاف: “هناك مخاوف من أن الديون الصينية ليست مجرد قضية اقتصادية، بل يمكن أن تتحول بسرعة إلى تدخل سياسي، وتدخل تجاري، وحتى وجود عسكري متزايد”.
فهل نلوم الدول الإفريقية على قبول القروض الصينية التي غالبًا ما تأتي مع شروط تفضيلية – بما فيها تمويل المشاريع بدون فائدة في بعض الحالات, كما أن المشروعات التي تُمَوِّلها هذه القروض تخدم غرضًا وطنيًّا أساسيًّا؟!
“هناك حاجة ماسَّة إلى الكثير من مشاريع البنية التحتية هذه، ولم يكن لدى الدول الإفريقية وسائل أخرى لتنفيذ المشاريع الضخمة؛ حيث إن اقتصاداتها – رغم نموها السريع – لا تزال صغيرة نسبيًّا”؛ هكذا قالت “بنعبد الله”.
ومع ذلك, يجب على قادة الدول الإفريقية توخّي الحذر في قروضها واتفاقاتها مع الصين؛ لأن الصفقات الثنائية تضع الدول المُستلِمة في وضع صعب وعجز تجاري غير مؤاتٍ. وهذا يفرض على الزعماء الإفريقيين ضرورة تسخير مواردهم لدعم العقول النيِّرة والمبادرات الشبابية التنموية, مع الاهتمام بالتكنولوجيات التي تساهم في نمو الشركات المحلية وتدريب الكوادر الوطنية عليها لتصبح دولهم قادرة على التنافس في الاقتصاد العالمي.
المصادر:
Du Plessis, A. (2014). The Forum on China–Africa Cooperation, Ideas and Aid: National Interest (s) or Strategic Partnership?. Insight on Africa, 6(2), 113-130. Abdur Rahman Shaban (2018). African leaders trooping to Beijing for 2018 FOCAC summit. Africa News, available online: https://bit.ly/2N5BsX2 Lucy Hornby & David Pilling (2018). Africa seeks China deals that will bring jobs and skills. Financial Times, available online: https://on.ft.com/2PxiW7F Salem Solomon (2018). For African Countries, China Forum Provides Shot at Better Deals. VOA, available online: https://bit.ly/2LIlcq5 Janet Eom, Deborah Brautigam, and Lina Benabdallah (2018). The Path Ahead: The 7th Forum on China-Africa Cooperation. The China Africa Research Initiative, Johns Hopkins University. Paper available online: https://bit.ly/2MSdy10