يقول الساسة ان الخطر ليس في ان نروي الحقيقة, بل الأخطر ان نروي نصفها , وفي المقابل في علم الإقتصاد يقال يجب ان تتسلح بسوء الظن لا بحسن النية .
في آخر استطلاع لمركز الدراسات الإستراتيجيه في الجامعة الأردنية وجد أن 45% اي ما يقارب نصف الشعب الأردني يريد الهجرة ولو حالا، بسبب سياسات الإفقار الإقتصادي والتفكيك المجتمعي و مشاكل الفقر وتراجع خدمات التعليم والصحة والضمانات الإجتماعية المختلفة وإزدياد الفجوة بين الغني الفاحش والفقر المدقع , وعدم عدالة التوزيع (إنتاجا وإستهلاكا) بإقتصاد مقسم الى قسمين 15 % أباطرة المال والإنتاج والقرار يقابلهم 85% متخمي الديون منزوعي دسم الإنتاج والقرار .مع تقلّص فرص العمل والعمالة المستقرّة ومشاكل البيئة المعقدة.
ليقع الأردن بين فكين أحدهما إقتصادي والآخر سياسي . بوجود النيوليبرالية الجديدة وأصحاب الياقات البيضاء في الدولة والإقتصاد, وما وصلنا اليه من المحاصصة في السياسة و وصلنا اليه من الخصخصة في الاقتصاد لأن الأساس المشترك للقضية واضح ..
وبعد سنوات أخيرة عجاف، أضحت النتائج واضحة للعيان الشعارات جميلة رنانة لكن النتائج الملموسة بشعة جدا . غوغاء وفوضى وأجندات ومشاريع متضاربة , من جهة نجد هجرة العقول والموارد البشرية الأردنية التي فاقت المليون مغترب طواعية بحثا عن لقمة العيش ولغياب الأمن الاقتصادي.ومن جهة أخرى نجد المتعثرين ماليا والذين وصل عددهم مع أسرهم الى أكثر من مليون نسمة داخل البلد يبحثون عن مخرج او مهرب غير ملموس ويتمنون الهجرة لاي بلد كان , ناهيك عن من هاجروا الى مصر وتركيا وليبيا وجورجيا وقبرص وأمريكا ودول اخرى ويقدر عددهم بمئات الالاف وهؤلاء يدخلون ضمن حسابات هدم المعنوية والمناعة الذاتية وقتل الإنتماء والوطنية لديهم لأنهم أصبحوا مواطنين مع وقف التنفيذ.
حال الجيل الجديد لشباب الاردن مقلق و خطير، حيث تشير عدة إحصاءات ان ما يقرب من نصف حملة الشهادات الجامعية منه يسعون للهجرة. لان البطالة تجاوزت النسب المسموح بها بل لم نعد نلمس شفافية أرقامها المعلنة , ولا یمكن معالجتها عن طریق إطلاق الوعود للناس بتوظیفھم في القطاع العام. وهو اسلوب معالجة لم ينجح في السابق.
وان تم توظیف العشرات الیوم، فماذا عن باقي الناس الذین سیطالبون بالمعاملة بالمثل؟ ان نسبة البطالة في الأردن الیوم كفیلة لأن تسقط اي حكومة في العدید من دول العالم، و لكنھا تذكر كإحصائیة لدى الحكومات الاردنية و تمر مرور الكرام.
قد وصلنا لوضع لا یمكن فیه الاستمرار بوجود عمالة وافدة اكبر من حجم العاطلین عن العمل حيث فاق عددهم ال2 مليون عامل وافد ، والإحتقان الشعبي بات أكبر من ان تستخدم ثقافة العمل ذریعة لعدم تطبیق خطة للإحلال التدریجي للعمالة الأردنیة مكان الوافدة.
اي إصلاح اقتصادي أصبح لا معنى له. المواطن بات هاجسه الخوف من المستقبل على اولاده ومحاولة تأمين حياتهم في ظل غليان سياسي واقتصادي غير مسبوق سيوصل البلاد إلى استعمارجديد من نوع اخر بدأ يبرز بشكل جلي لمسار الحكومة في تعاملها مع الشعب.
ما يحصل هو عملية تهجير للشعب دون الدخول في حرب او ثورات او مناخ سياسي يشبه ما حدث في سوريا والعراق والدول العربية , إذ وصل الامر الى الدخول في متاهة ما يسمى بتهجير قسري غير مباشر للشعب ، عن طريق دفع الناس إلى الرحيل والهجرة، بإستخدام وسائل الضغط والترهيب والإضطهاد. هو يندرج ضمن جرائم الحرب لانه يأتي بمعنى إبحثوا عن وطن آخر يحتويكم ويوفر لكم لقمة العيش .لنصل لمرحلة سياسية , لا يواجه بها أي محتل معارضة او سلاح.
واصبح الشعب يصارع حرب الرواتب وحرب الملاحقة وحرب التذويب وحرب الهوية وحرب فاشلة وحرب مضادة , جميع هذه الحروب داخل أرض واحدة وعناصرها أحادية القطب ضد شعب واحد دون غيره .
هل باتت خيارات الأردن الآن معدومة ؟؟ وما يحصل مجرد تفاصيل وألاعيب وشكليات لا تأثير لها , و تتم السيطرة بطريقة غير مباشرة مع غياب الوزن السياسي او الإقتصادي الفاعل . وغياب الكلفة المادية و البشرية للإصلاح السياسي والإقتصادي والإجتماعي . في ظل بيئة سياسية من السيطرة الغربية والشرقية على العالم العربي والإسلامي خصوصا مع ما يسمى بالإستعمارغير المباشر والتطبيع العلني المباشر . وهو أرخص و أكثر فاعلية لبسط السيطرة و النفوذ و الهيمنة على عدد كبير من الدول والبشر.
وفي ظل هذه الفسيفساء السياسية المتخاذلة للدول العربية والمحيط الإقليمي المتشابك هل ننتظر معركة ( هرمجدّون ) وهي المعركة المذكورة في ( التلمود) اليهودي وهو مرجع أكثر قدسيه عندهم من ( التوراة) ؟. ووفق التلمود ستباد أمم بكاملها في هذه المعركه ؟. ..فنحن نتصور أن السلام هو انتهاء الحرب كما قال انور السادات لكن السلام المزعوم له ثمنه و سيدفعه الشعبين الاردني والفلسطيني.
أنا لا اؤمن أن الوطن مقدس بحد ذاته، لان العقلاء يعلمون جيدا ان قيمة الوطنِ ، تعتمد على معادلة: ما يقدمه الشعب والحكومة للوطن، وبالمقابل ما يعطيه الوطن للشعب. واذكر هنا قول الفيلسوف الفرنسي جان جوزيف غو “إن المجتمع الذي يُهيمن عليه النشاط المصرفي والسياسات المالية لليبرالية الجديدة، أي القرض، يلعب على الوقت والإنتظار، يلعب بالمستقبل كما لو كان ورقة في لعبة قمار”.