شهر أغسطس هذا العام لم يكن على موعد مع أشد درجات الحرارة ارتفاعا، بل حمل معه أشد أسابيع العام غبنا واستفزازا!!
لقد حمل الشهر أحداثا من الساحل الشمالي (مركز الصفوة وأغنياء المجتمع “صيفا”) تسببت في استفزاز المصريين من البسطاء والكادحين والباحثين عن لقمة عيش (بالحلال أو الحرام) بعد أن أحيت مطربة أمريكية تدعى جينيفر لوبيز حفلا في إطار جولة غنائية خاصة بها لعدد من دول العالم بمناسبة بلوغها 50 عاما.
وبعد أن زارت دولة المحتل الإسرائيلي لإحياء حفلها هناك، صدرت دعوات واشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي رفضا لحفلها ومجيئها إلى مصر، ولكن لم يتم الالتفات إلى تلك الدعوات، وتم الحفل الذي أشعل “الساحل الشمالي” برواده من شباب وأبناء الأغنياء أصحاب الامتياز الحصري برمال وشاطئ “الساحل الشمالي”، لتشتعل مرة أخرى المواقع الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي التي كشفت عن أجر المطربة الأمريكية الذي بلغ 20 مليون جنيه، وأفادت مصادر بأنها سددت الضريبة المستحقة عليها.
وإذا سأل سائل كيف يكون لمثل هذه المطربة هذا المبلغ الخرافي في عدة ساعات محدودة، فله أن يعرف أن سعر التذكرة الواحدة تراوح بين 3000 جنيه و7000 جنيه، كما أن سعر اللاونج المخصص للشركات ورجال الأعمال بلغ سعره في هذا الحفل 40 ألف جنيه، وقيل أن الحضور وصل عددهم إلى 7000 آلاف فرد.
كل ما سبق من الممكن أن يكون له عذر أو 10 أعذار، خصوصا وأن مثل هذه الحفلات لم تكن الأولى من نوعها في هذا الساحل الشمالي، بل هي طبيعته من سنوات، ولكن كانت المفاجأة التي أذهلت الجميع حضور عدد من وزراء الحكومة لحفل جينيفر لوبيز وكان أشهرهم هن الوزيرات: هالة السعيد وزيرة التخطيط، وسحر نصر وزيرة التعاون الدولي، وغادة والي وزيرة التضامن الاجتماعي، والمفاجأة لم تتمثل في حضور الحفل فحسب، بل لوقوع الحادث الإرهابي الأليم أمام المعهد القومي للأورام في منطقة المنيل والذي أودى بحياة 20 بريئا وعشرات المصابين، وبدلا من أن تواصل وزيرة التضامن الاجتماعي تضامنها مع أهالي الضحايا والمصابين، نراها اكتفت بأخذ صورة صباح اليوم التالي للحادث مع عدد من مسؤولي الدولة في معهد الأورام، لتحزم حقائبها بعد أيام قليلة لتحضر حفل “لوبيز” في الساحل الشمالي، غير عابئة وزميلتيها الوزيرتان هالة السعيد وسحر نصر، وانتشار صورهن وعلى وجوههن ابتسامات السعادة، وعلى وجوه الوطن دموع لم تجف على من ذهب من ضحايا الحادث الإرهابي الأليم.
لقد كشف تصرف الوزيرات ومن حضر من مسؤولي الدولة عن عدم تمتعهم بأي مستوى من مستويات الحس السياسي وانعدام مقومات ومؤهلات مسؤولي الدولة من ممثليها والشخصيات العامة والسياسية، إذ كل ظهور عام هو ملك عام للشعب ومحسوب على صاحبه، على خلاف الظهور الخاص لرجل الدولة والذي لا يطلع عليه سواه ودائرته الضيقة فقط.
وفي هذا الموقف، وما أحزنني أنا شخصيا هو ظهور الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والإصلاح الإداري، والتي كانت العميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهي التي لها شأن ومقام رفيع (علما وخلقا)، فلا أدري ما الذي دفع بها إلى هذا الحفل والذي لا يتسق مع وضعها ولا فكرها، وأتمنى أن تكون مجرد “هفوة”.
وعن الحدث الثاني من دولة “الساحل الشمالي” فكان حفلا للراقصة دينا، وهذا لا غرابة فيه، فهو حفل معتاد لها مع جمهورها على شواطئ الساحل، أما ما استدعى غضب الملايين من المحافظين على قيمنا التي مازالت تسكن وجداننا من زمن الأجداد والآباء، هو ظهور الممثل محمد رمضان في حفل استعراضي بملابس شفافة منافية تماما لتقاليد وسمات الرجولة، كما ظهر عاريا في إحدى فقرات حفله (كما هو معتاد منه وهنا اشتاط رواد مواقع التواصل الاجتماعي غضبا وانهال عليه بأحط الأوصاف والشتائم؛ لما بدر منه من تصرفات وسلوكيات أساءت لمشاعر الناس من كل الفئات والأعمار. أما الحدث الثالث من دولة “الساحل الشمالي” فهو الحفل المرتقب للمطرب تامر حسني في الثلاثين من الشهر الجاري، والذي ملأت أخباره الدنيا ضجيجا، بعد أن تم الكشف عن أنه الأغلى في أسعار تذاكره عن حفل المطربة الأمريكية جينيفر لوبيز، فقد وصلت أسعار التذاكر للمنطقة المخصصة لرجال الدولة والدبلوماسيين والشخصيات العامة (12 فرد) 60 ألف جنيه، أي أن تكلفة الفرد في هذه المنطقة 5000 جنيه، وقد بيعت التذاكر بالكامل.
إن ما يحدث في “الساحل الشمالي” في ظروف التحديات (الاقتصادية والسياسية) التي تمر بها مصر لا يمكن تفسيره إلا أنه يحدث في دولة أخرى، لها عادات وتقاليد مختلفة تماما عن تقاليد وأعراف أهل مصر في عمومهم، حتى ما يطلق عليهم النخبة أو الصفوة، فهم من أكثر الفئات محافظة على التقاليد والأعراف، ولم نراهم يوما جانحين عنها.
وتأسيسا على كل ما سبق، لا يمكن أن يكون الرئيس عبد الفتاح السيسي في كل مناسبة يشدد على ضرورة العمل ومحاربة الفساد من ناحية، ومن ناحية أخرى يناشد ويطالب مكررا العودة إلى الأخلاق وتجديد الخطاب الديني، فأي أخلاق وأي خطاب مع ما يحدث في الساحل الشمالي؟!!
إن المنهج الذي يريد رئيس الدولة غرس قيمه في المجتمع، لا بد وأن يساعده عليه أعضاء الحكومة، لا أن يغردوا خارج السرب.
أعلم أن هناك من يدخل أحداث “الساحل الشمالي” في إطار تنشيط السياحة والدعاية للسياحة المصرية، وأن نجوم الحفلات سددوا الضرائب المفروضة عليهم وكذا الشركات المنظمة لتلك الحفلات، ولكن كل هذا غير كافٍ ليشفع في دولة تبني نفسها من قوت فقرائها ومحتاجيها، ولا يمكن القبول بأن يكون اقتصاد الدولة أو أحد روافده مبنيا على ضرائب الحفلات والسهرات التي يرفضها الشعب وتتنافى مع أخلاقياته.