أضفت زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي إلى الخرطوم في 4 مايو 2021م بُعْدًا جديدًا للمساعي الإريترية الطامحة لِلَعب دور إقليمي في منطقة القرن الإفريقي من خلال بوابة الأزمة الحدودية السودانية الإثيوبية، عقب العودة الرسمية لإريتريا إلى الساحة الإقليمية بالمشاركة في الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي التي اندلعت في نوفمبر 2020م.
وتأتي تلك التحركات الإريترية في إطارها الإقليمي بهدف إعادة توازنات القوة الإقليمية التي باتت لسنوات تميل لصالح الجانب الإثيوبي الذي نجح في فرض عزلة إقليمية ودولية على أسمرة وتقليص دورها، وذلك في إطار سياق إقليمي يتَّسم بالتغيرات الجوهرية التي طرأت على المشهد الجيوسياسي للمنطقة، بحيث حاول الرئيس الإريتري، أسياس أفورقي، توظيفها في سبيل استعادة جزء من دوره الإقليمي المفقود في المنطقة منذ أكثر من عقدين، إلا أن هناك بعض المعوقات التي قد تعرقل هذا المسار لأفورقي خلال الفترة المقبلة.
أولًا- دوافع أفورقي
شكَّل توقيع اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا في يوليو 2018م، وما صاحبه من تطورات على صعيد عودة العلاقات الطبيعية بين أسمرة ومحيطها الإقليمي باستثناء جيبوتي، وموافقة مجلس الأمن الدولي في نوفمبر 2018م على رفع العقوبات المفروضة على النظام الإريتري، وإنهاء سنوات العزلة الإقليمية والدولية التي عانى منها النظام الإريتري؛ بمثابة نقطة تحوّل محورية بالنسبة للرئيس أفورقي الذي تجدَّدت آماله في إعادة إحياء حُلمه القديم الخاص بلعب دور إقليمي بارز ليكون رقمًا مهمًّا في معادلة القرن الإفريقي، وسط دعم كبير من حليفه الاستراتيجي الجديد في المنطقة آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، الذي تربطهما شراكة استراتيجية كشفت عنها بشكل جليّ الحرب الأخيرة ضد إقليم تيجراي شمالي إثيوبيا التي شهدت عودة إريتريا إلى المسرح الإقليمي بعد عزلة إقليمية دامت لسنوات طويلة، وذلك عقب تورّط قواتها في تلك الحرب إلى جانب نظيرتها الإثيوبية.
بالإضافة إلى التكتل الإقليمي الجديد الذي برزت معالمه في سبتمبر 2018م عقب توقيع كلّ من إثيوبيا والصومال وإريتريا اتفاقًا ثلاثيًّا لتدعيم العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية، والذي مرَّ بعدة مراحل منها الاجتماع الثلاثي الذي ضمَّ زعماء الدول الثلاث في يناير 2020م بأسمرة وصولًا للإعلان عن التكتل في سبتمبر 2020م المعروف بمنظمة تعاون القرن الإفريقي. وهو ما يعكس رغبة أفورقي في إعادة بناء التحالف الإقليمي في المنطقة، وما يرتبط به من إعادة إحياء حلم مشروع القرن الإفريقي الكبير الذي يضم عددًا من دول المنطقة، خاصة في ظل انتقاده لدور بعض المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي ومنظمة إيجاد. وهو ما يضمن له التأثير على آبي أحمد وبعض دول المنطقة بما يعزّز نفوذه الإقليمي.
وترتبط مساعي أفورقي للعب دور إقليمي في القرن الإفريقي بالتغلُّب على بعض التحديات الداخلية التي تواجهه مثل التخلص من الخصوم التاريخيين له مثل جبهة تحرير تيجراي التي تُشكِّل تهديدًا للنظام الحاكم في أسمرة، خاصة أن أفورقي لديه قناعة بأن الجبهة تهدِّد وجود بلاده؛ وبالتالي فإن الفكرة أكثر من مجرد رغبة في الانتقام، وإنما تتجاوز إلى منعها من تدريب وتسليح معارضة محتملة لنظام أفورقي. وهو ما يضمن استمرار حكم أفورقي في البلاد، وربما تهيئة الظروف في الفترة المقبلة لعملية توريث محتمل للحكم في البلاد إلى أبراهام أسياس أفورقي. بالإضافة إلى تنفيذ وعود آبي أحمد باستعادة منطقة بادمي إلى السيادة الإريترية، والضغط الإقليمي على جيبوتي من أجل سيادة إريتريا على منطقة دميرة.
وتتعدد الدوافع لدى أفورقي بشأن طموحه الإقليمي في لعب الدور الإقليمي الأبرز في منطقة القرن الإفريقي، وتتمثل أبرزها في:
1- السيطرة على دول المنطقة: وهو ما يسهم في إعادة إحياء النفوذ الإقليمي لإريتريا المفقود منذ بداية الألفية الجديدة، فالبعض يشير إلى أن الهدف الرئيسي لأفورقي هو احتواء إثيوبيا، وإعادة تشكيل القرن الإفريقي في صورته الجديدة؛ من خلال تكتّل تعاون القرن الإفريقي، في ظل اعتقاده بأنه يتمتع بنفوذ كبير على آبي أحمد.
ويعزز هذا الطرح احتمالية أن تعتمد إثيوبيا بشكل كبير على الموانئ الإريترية للنفاذ إلى البحر الأحمر، وهو ما يحقّق لأفورقي أهدافه فيما يتعلق بربط إثيوبيا واقتصادها بإريتريا بما يضمن احتواء أفورقي لصانعي القرار الإثيوبي بدرجة ما مستقبلًا. بالإضافة إلى احتواء السودان خوفًا من إيواء بعض الحركات المعارضة للنظام الإريتري، ومحاولة الضغط على جيبوتي ومنافستها في مجال الموانئ البحرية. ومع ذلك، يدرك أفورقي أن منطقة القرن الإفريقي لا يوجد فيها أصدقاء دائمون، إضافة إلى شرعنة استخدام القوة في المنطقة، وأن إريتريا -برغم صِغَر حجمها ومحدودية قدراتها- تستطيع أن يكون لها ثقل إقليمي كبير في محيطها الإقليمي.
2- رسائل متعددة للمجتمع الدولي: يدرك أفورقي أهمية الترويج لنفسه على أنه صانع السلام في المنطقة في ضوء تحركاته الأخيرة لتقريب وجهات النظر بين إثيوبيا والسودان على سبيل المثال، وأنه يمتلك مفاتيح استقرار المنطقة وزعزعة أمنها إذا لزم الأمر، خاصةً أن المجتمع الدولي بات ينظر إليه خلال السنوات الماضية كمهدِّد للاستقرار والأمن الإقليمي في القرن الإفريقي لا سيما أنه قد تورَّط في دعم بعض المجموعات المتمردة لزعزعة استقرار بعض دول المنطقة مثل إثيوبيا والسودان والصومال.
3- إريتريا بوابة إقليمية للقوى الفاعلة: يسعى أفورقي لاستغلال كافة المقومات الإريترية مثل الموقع الجغرافي المتميز لبلاده على البحر الأحمر ليكون مرتكزًا إقليميًّا عبر استقطاب المزيد من القوى الدولية والإقليمية، والاستفادة من الاستثمارات الأجنبية القادمة للمنطقة، وذلك بهدف إنعاش الاقتصاد الإريتري المتردي، وتطوير البنية التحتية في البلاد لا سيما الموانئ البحرية على ساحل البحر الأحمر، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على تنامي الدور الإقليمي لإريتريا في المنطقة مستقبلًا.
4- الاستفادة من تصاعد التنافس الدولي في المنطقة: والذي يحقق لأفورقي عدة أهداف أبرزها إنهاء العزلة الدولية لنظام أفورقي خاصَّة في ظل حاجة بعض القوى الغربية إلى دور إريتري لتسوية بعض الملفات الشائكة التي تمسّ أمن القوى الأوروبية مثل ظاهرة الهجرة غير الشرعية، فضلًا عن ضمان عدم التعرض لأيّ عقوبات دولية بفضل الدعم الدولي، وحاجة أفورقي للانفتاح الاقتصادي، وأن يكون جزءًا من بعض المبادرات الاقتصادية والاستثمارية الكبرى مثل مبادرة الحزام والطريق لتعزيز اقتصاد البلاد المتهالك.
ثانيًا- مؤشرات استعادة الدور
استفادت إريتريا من خلال نجاحها في توظيف التحولات الاستراتيجية التي طرأت على المشهد الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي منذ عام 2018م لصالحها على الصعيدين الإقليمي والدولي، فقد أضحت أسمرة أكثر انفتاحًا إقليميًّا على دول المنطقة بعد سنوات من العزلة، كما نجح أفورقي في إزالة العقوبات الدولية على نظامه بمساعدة إثيوبية وإقليمية، لتعود إريتريا للظهور كلاعب إقليمي رئيسي في المنطقة.
وعليه، فقد برزت العديد من التحركات للرئيس أفورقي في بعض أزمات المنطقة، والتي مثَّلت بوادر لمحاولات إريترية تستهدف استعادة الدور الإقليمي في المنطقة، فقد لعبت أسمرة دورًا رئيسيًّا في الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي التي اندلعت في 4 نوفمبر 2020م، وتورطت قواتها في ارتكاب العديد من الممارسات القمعية تجاه قومية تيجراي، وهو ما دفَع المجتمع الدولي إلى الضغط ومطالبة القوات الإريترية بالانسحاب من إقليم تيجراي.
يأتي ذلك في ضوء التحالف الاستراتيجي القائم بين أفورقي وآبي أحمد الذي دعا البعض للتنبؤ بإمكانية التكامل السياسي بينهما في إطار كونفدرالي، خاصة عقب حديث أفورقي بحماس عن اتحاد كونفدرالي مع إثيوبيا عشية توقيع اتفاق السلام بين البلدين في يوليو 2018م، وتصريح دينا مفتي، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، في مارس 2021م بأن استقلال إريتريا كان خطأ يمكن تصحيحه عن طريق التكامل السياسي بين البلدين قبل أن يُقدّم اعتذارًا في وقت لاحق عن تلك التصريحات بعد غضب في الأوساط الإريترية. الأمر الذي يُعزّز احتمالات تفيد باستضافة بعض موانئ إريتريا للقوة العسكرية البحرية الإثيوبية المزمع إعادة إحيائها مرة أخرى خلال المرحلة المقبلة.
وفي ضوء العلاقة الخاصة التي تربط أسياس أفورقي مع آبي أحمد، والتي دفعت العلاقات بين البلدين إلى مستويات متقدمة خلال السنوات الأخيرة منذ 2018م؛ جاء تأسيس تكتل تعاون القرن الإفريقي في سبتمبر 2020م ليُعبّر عن تحالف ثلاثي جديد بين إثيوبيا وإريتريا والصومال، يشرف عليه أفورقي الذي يطمح إلى تعزيز نفوذه في الإقليم، واحتواء بعض زعماء المنطقة مثل آبي أحمد وفرماجو. وعزز ذلك محاولات أفورقي لتقديم الدعم والمشورة للرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو في ضوء الأزمات السياسية والأمنية التي تشهدها الصومال مؤخرًا، فقد احتضنت أسمرة تدريب بعض القوات الخاصة الصومالية التي تلقت تدريبات في بعض المعسكرات الإريترية قبل عودتها للصومال.
وفي إطار مساعيه للعب دور راعي السلام في المنطقة، والظهور كشريك حقيقي في السلام والتنمية في الإقليم، حاول أفورقي لعب دور الوسيط في الأزمة الحدودية السودانية الإثيوبية، وهو ما عبَّرت عنه زيارته إلى الخرطوم في 4 مايو 2021 في محاولة لتقريب وجهات النظر بين البلدين في قضيتي الحدود وسدّ النهضة الإثيوبي دون اللجوء إلى تصعيد تنعكس تداعياته السلبية على الأمن والاستقرار في المنطقة، خاصةً أن أفورقي يمتلك بعض أوراق الضغط على البلدين بحكم الجوار الجغرافي والعلاقات الجديدة مع آبي أحمد.
ويدرك أفورقي أن نجاحه في تسوية هذه الأزمة يضمن له الترويج بشكل واسع وإيجابي على الصعيد الدولي، مما قد يسهم في تغيير نظرة الغرب له على أنه صانع للسلام في المنطقة، مما قد يدفع بقوة نحو استعادة إريتريا لجزء من دورها كلاعب إقليمي مؤثر في القرن الإفريقي، وإن كانت المؤشرات في هذا الشأن تعكس غير ذلك في ضوء إصرار السودان على إحكام سيادتها الكاملة على أراضيها.
وفي سبيل الحصول على المزيد من الدعم الإقليمي وبناء تحالفات إقليمية جديدة علاوة على المكاسب المادية، يقدم أفورقي منذ عام 2016م دعمًا لوجستيًّا لكل من السعودية والإمارات في حربهما ضد جماعة الحوثي اليمنية من خلال السماح لهما باستغلال إحدى القواعد اللوجستية في ميناء عصب الإريتري في عملياتهما العسكرية لاحتواء تهديدات الحوثيين، وذلك قبل أن تلعبا دورًا حاسمًا في إتمام اتفاق السلام الإقليمي بين إريتريا وإثيوبيا في عام 2018م.
ثالثًا- تحديات قائمة
تصطدم طموحات أسياس أفورقي في الزعامة الإقليمية ببعض التحديات القائمة؛ لعل أبرزها عدم امتلاك إريتريا مقومات اللاعب الإقليمي الذي يمكن الاعتماد عليه مِن قِبَل القوى الفاعلة دوليًّا، وإن كان أفورقي يمتلك قدراتٍ تسمح له بمساحة مناورة لخَلْق دور إقليمي في المنطقة، لا سيما أنه يُجيد اللعب على المتناقضات الإقليمية في ظلّ امتلاكه لبعض أوراق الضغط التي من شأنها التأثير في أمن واستقرار الأوضاع في القرن الإفريقي، وهو ما مكنَّه من الاستمرار في الحكم طوال هذه السنوات.
بالإضافة إلى الممانعة الإقليمية من جانب بعض دول المنطقة مثل جيبوتي والسودان وإثيوبيا بشأن تعويم الدور الإريتري في المنطقة على حسابها لا سيما في ظل التخوُّفات الإثيوبية والسودانية من الصعود الإريتري، ورفض جيبوتي لأيّ دور إريتري في المنطقة بسبب التوترات القائمة على خلفية أزمة الحدود بينهما.
كما أن استمرار الاتهامات الدولية لإريتريا بشأن انتهاكات حقوق الإنسان تفتح المجال أمام فرض المزيد من العقوبات على النظام الإريتري، ومِن ثَمَّ تعرُّضها للعزلة الإقليمية والدولية، فقد فرض الاتحاد الأوروبي في 22 مارس 2021م عقوبات ضد وكالة الأمن القومي الإريترية تضمنت تجميد الأصول وحظر السفر بسبب الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان حسب وصفه، وهو ما رفضته أسمرة.
وإجمالًا، تظل فُرَص أفورقي للعب دور إقليمي بارز في القرن الإفريقي قائمة ومحسوبة؛ وفقًا لقدرات بلاده، وفي ضوء طبيعة التفاعلات الإقليمية بالمنطقة التي تنذر بإعادة تشكيل توازنات القوة هناك، ويظل هذا الدور مرهونًا بحالة التوافق الإريتري الإثيوبي المرتبطة باستمرار اتفاق السلام بينهما قائمًا، والقبول الدولي لدور إريتري في المنطقة الذي يستدعي تجاوز كل الانتهاكات التي يتورط فيها النظام الحاكم في الداخل، وقدرة إريتريا على قراءة المشهد الإقليمي وتفاعلاته وتقاطعاته المختلفة مِمَّا يُمَكِّنها من إدارة الملفات الشائكة بما يُحقّق أهدافها، ويعزّز دورها في المنطقة وسط غياب للممانعة الإقليمية قد تعرقل أي دور إريتري محتمل في المنطقة مستقبلًا.