لم يكن إعلان تأجيل الانتخابات الرئاسية الليبية –والتي كانت مقررة في الرابع والعشرين من الشهر الجاري- مفاجئا، حيث كان السيناريو الأقرب والمتوقع الذي ذهب إليه معظم المحللين والمتابعين للشأن الليبي في ظل المعطيات الموجودة على مسرح العمليات السياسية والأمنية في ليبيا.
ففي ظل تعقد المشهد سياسيا بين المترشحين وأنصارهم، وكثرة الطعون بهدف عرقلة العملية الانتخابية وكسب مزيد من الوقت للأطراف التي لا تقع الانتخابات في مصلحتها، ومنع انعقاد محكمة ما تنظر الطعن المقدم في أحد المرشحين.. إلى آخره من تحركات كان من الواضح أن أطرافا في الداخل اللليبي تريد إبقاء الوضع على ما هو عليه لتحقيق أكبر قدر من تحقيق المكاسب على حساب المصلحة الأكبر للبلاد وشعبها.
أما على الصعيد الأمني، فقد شهدت مدينة سبها في الجنوب الليبي معارك مسلحة، وصفت بأنها الأعنف، بين قوات تابعة للجيش الوطني الليبي وقوات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية في إنذار واضح لاستمرار الخلاف بين جناحي الشرق والغرب في ليبيا وتأثيره على مجريات العملية السياسية وأهمها إجراء الانتخابات في موعدها.
أضف إلى ما سبق استمرار سيف الإسلام معمر القذافي في سباق الانتخابات الرئاسية بعد أن حكم القضاء بشكل بات بأحقيته في الترشح للرئاسة رافضا الطعن المقدم ضده. وبقاء سيف الإسلام القذافي في السباق الانتخابي فتح النار على جميع الفرقاء وعلى ثوار فبراير 2011 الذين قتلوا والده في أكتوبر 2011، فبالرغم من وجود مناصرين لسيف الإسلام القذافي من عدد لا يستهان به من القبائل الليبية، إلا أن الحسابات السياسية لن تكن في صالحه مائة بالمائة، وبالرغم أيضا من تلقيه دعما خارجيا من روسيا، حيث أن جناح الغرب المتمثل في مصراتة تحديدا يقفون له بالمرصاد انتقاما منه في شخص والده الذين تخلصوا منه، بما يعني أن مجيئه رئيسا سيدخل البلاد في دوامة جديدة من العنف المسلح بين القبائل بعضها البعض من جهة والقبائل والميليشيات من جهة أخرى.
ومع ظل تهديدات جماعة الإخوان بعدم قبول نتائج الانتخابات حال إجرائها، بل أنهم رفضوا الانتخابات من حال الأصل ووصفوها بـ”المهزلة” عن لسان رئيس المجلس الأعلى خالد المشري، كان من المتوقع انفجار المشهد من الداخل الليبي على أيدي الفرقاء الليبيين، وتجنبا لهذا السيناريو رأت المفوضية العليا للانتخابات تأجيل الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية إلى 24 يناير المقبل، ملقية بالكرة في ملعب مجلس النواب حيث أرجعت المفوضية في بيانها تأجيل الانتخابات إلى شعورها بعدم اليقين لتمكنها من إجراء الانتخابات، مطالبة مجلس النواب بالعمل على إزالة “القوة القاهرة”، بحسب تعبير البيان، المانعة لإجراء الانتخابات، وأن على مجلس النواب تحديد موعد جديد خلال 30 يوما طبقا للقوانين المنظمة.
وفي الحقيقة، فإن إجراء الانتخابات الليبية يتوقف على عاملين مهمين هما إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلاد، وجمع سلاح الميليشيات والأفراد وجعله بيد الدولة؛ وهذا إجراء متوقف على اللاعبين الأساسيين في المشهد الليبي سواء من الداخل أو من القوى الخارجية الإقليمية والدولية والتي مازالت تنتهج “سياسة جيلاتينية” يحتفظ فيها كل طرف بكروت احتياطية للعبة حال فشل الحل السلمي والمتمثل في إجراء الانتخابات.
لقد بدأت جولات مسارات الحل السياسي منذ العام 2015 والذي بدأ باتفاق الصخيرات الشهير في المملكة المغربية وكان قاعدة انطلاق مهمة وأسس عليه مؤتمر برلين1 والذي أيدته مصر ورحبت به، ولم تتوقف المؤتمرات واللقاءات والتي استمرت حتى قبل شهر من موعد الانتخابات التي تم تأجيلها، وظلت الأزمة الليبية في موضع تنافس أوروبي خاصة بين فرنسا وإيطاليا لتحقيق أكبر مكاسب لكلا الطرفين وبالتوازي معهما الطرفين الروسي والتركي.
للأسف الشديد، فكل المؤتمرات لم تكن سوى لقاءات لتبادل حلول ورقية فقط، ولكن على الأرض لم يتحقق شئ. فبالرغم من مؤتمر طرابلس في أكتوبر 2012 ومن بعده مؤتمر باريس في نوفمبر الماضي والذين أقرا ضرورة إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا تمهيدا لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، إلا أن أحدا لم يتحدث عن موعد وآلية التنفيذ، في إشارة واضحة أن الجميع يريد بقاء كروت اللعبة الاحتياطية في يده لآخر الوقت حال تأزم الوضع أو انفجاره من الداخل.
وهنا نشير إلى الموقف المصري والذي كان واضحا وضوح الشمس حين وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي كلامه لليبيين من مؤتمر باريس الأخير مؤكدا أن الحل بأيديهم لا بيد غيرهم، مذكرهم بنضال زعيمهم عمر المختار وأن خيرات ليبيا يجب ألا تذهب لغيرهم وعليهم حمايتها، وشددت مصر في المؤتمر على ضرورة إخراج المرتزقة وأي قوات أجنبية فهو السبيل الوحيد لاستقرار ليبيا وأمنها.
ومع تأجيل الانتخابات الليبية إلى 24 يناير المقبل يبقى السؤال المتكرر: هل ستجرى الانتخابات في هذا الموعد أم أن حلقة مفرغة يدور فيها الليبيون أمام مشاهدة ممتعة من المجتمع الدولي؟!
إن تهدئة الأمور في الداخل الليبي هو الأرضية التي ستمهد الطريق لإجراء تلك الانتخابات؛ ولعل لقاء بنغازي الأخير الذي جمع خصوم جناحي الشرق والغرب يعد الأمل الأول في ترتيب البيت الليبي وتغيير الأجواء العاصفة، فاللقاء الذي جمع سبعة من مرشحي الرئاسة أبرزهم المشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني الليبي وفتحي باشاغا وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق الوطني كان لقاء مهما وله دلالة خاصة في تغيير المعادلة السياسية في المشهد الليبي، حتى وإن تم بوساطة أممية قامت بها ستيفاني ويليامز المستشارة السياسية للأمين العام للأمم المتحدة والمكلفة بالملف الليبي، حيث قامت بزيارة كل من مصراتة وبنغازي مطالبة الجميع بضرورة توحيد الجهود في الفترة القادمة ونزع فتيل الخلافات. وبالتوازي فإن أمريكا لم تعد ترغب في تضييع وقت أكثر من ذلك، وعلاوة على كل ذلك فإن تركيا بدأت تنتهج سياسة أكثر تعقلا وتريثا في الملف الليبي وبدأت تنفك عن دعم التنظيمات المسلحة في ليبيا أملا في إعادة علاقات جيدة مع مصر التي لن تترك أي مجال لتهديد أمنها القومي من ناحية الحدود مع ليبيا.
يبقى أن نؤكد أنه إن لم تتوفر إرادة حقيقية لدى كافة الأطراف المؤثرة في المشهد الليبي ستظل الأزمة لا تراوح مكانها، وسندور في فلك مؤتمرات ومفاوضات جديدة لا تنتهي، ويظل اللاعب هو الطرف الفائز والشعب هو الطرف الخاسر.