كنت فى الماضى الغابر وإلى الآن استمع إلى القرآن الكريم..وأنا يأسرنى الصوت الخاشع.الذى يَبكى صاحبه..ويُبكى..ومن الأصوات التى يَتملكُك عند سماعِها إحساسٌ غريب..إحساسُ بالرهبةِ والخشوع.والخوفِ المشوب بالهدوءِ النفسىِّ والراحة القلبية..صوت الشيخ المنشاوى.ولاينافسه فى ذلك إلّا الشيخ..كامل يوسف البهتيمى.
يقرأ المنشاوى آياتِ الصلاة.. فيجعلُك.تمُدّ سُجادة الصلاة..وتسجُد لله شكرا. يقرأ آيات الحديث عن الجنّة..تشتاق إلى جنات ونهر ومقعد الصِّدق عند المليك المقتَدِر..يقرأ آيات الحديث عن النّار.. فيبكيك.ويجعلك تستعيذ من حرِّها وشرِّها. إنّه المنشاوى… الشيخ الباكى.
مولده:
ولد القارئ..محمد صِدِّيق المنشاوى فى مركز المنشأة.محافظة. سوهاج.فى صعيد مصر..سنة ألف وتسعمائة وعشرين-١٩٢٠-وهو من أشهر القرّاء المصريين للقرآن الكريم.
ينحدرُ الشيخ المنشاوى من أسرة عريقة لقرّاء القرآن الكريم..فجدُّ والده..وجده كانا من قرّاء القرآن الكريم. ووالده..الشيخ..صِدّيق السيد المنشاوى الذى اشتُهرت قراءته فى مصر وسوريا ولندن..وأخوه..محمود صِدّيق المنشاوى القارئ بالإذاعة والتلفاز..وعمه..أحمد صِدّيق المنشاوى الذى دعى للقراءة فى القصر الملكى ورفض ذلك.وقد أتى إلى القاهرة مع عمه أحمد السيد المنشاوى.وحفظ ربع القرآن فى عام-١٩٢٧-ثمّ عاد إلى قريته المنشأة..وأتم حفظ القرأن الكريم على يد المشايخ…
=الشيخ ..محمد النمكى.
=الشيخ..محمد أبو العلا.
=الشيخ..رشوان أبو مسلم. الذى كان لايتقاضى أجرًا على تعليم القرآن. والمنشاوى ينتمى إلى المدرسة المنشاوية.وهو مدير هذه المدرسة.ثمّ انتقل بعد ذلك إلى القاهرة لأخذ علوم القرآن والقراءات..وفى الثامنة عشرة من عمره بدأ يقرأ القرآن فى المساجد والمحافل حتى ذاع صيته..وأطلق عليه لقب..مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة.
صوته فى الميزان:
عُرِف المنشاوى بجمالية صوته وتلاوته التى يملؤها الخشوع والإخبات.فأنجز تسجيلات عديدة لتلاواته-كما قرأ القرآن الكريم فى المسجد الأقصى والكويت وسوريا وليبيا.. وقد شارك فى قراءات جماعية مع القارئيْنِ..كامل يوسف البهتيمى الذى كان ينافسه فى جمال الصوت وخشوع التلاوة.والقارئ..فؤاد العروسى.
زواجه:
تزوج الشيخ المنشاوى مرتين..الزوجة الأولى أنجب منها أربعة أولاد وبنتين..وأنجب من الزوجة الثانية خمسة أولاد..وأربع بنات..وقد توفيت زوجته الثانية-سنة-١٩٦٨-سنة..ألف وتسعمائة وثمان وستين.وهى تؤدى معه فريضة الحج.
كان للشيخ المنشاوى بصمة خاصة فى التلاوة تتميز بصوت خاشع ذى مسحة من الحزن..فلقبوه بالصوت الباكى.وهو القارئ الذى كان يصور ما يقرأ..ويشعر من يستمع له أنّه يعنيه هو وليس غيره.
دخوله الإذاعة:
لم يكن الشيخ المنشاوى من الساعين إلى أن يُعتمد قارئا فى الإذاعة.وهو الذى أحب القرآن الكريم حبّا مجردا من المطامع والشهرة والرياء.بل حدث العكس معه.فعندما ذاعت شهرته.وانتشر فى الآفاق صيته.أرسلت الإذاعة إليه طلبا لتقديمه إليها..ثمّ اعتماده قارئا بها..ولكنه رفض.وقال: لاأحتاج إلى ذلك.ومع زيادة شهرته..وبزوغ شمسه..وعلو شأوه..وذيوع شأنه بين النّاس انتقلت الإذاعة بمعداتها ومهندسيها حيث كان الشيخ المنشاوى يتلو القرآن فى سهرة قرآنية فى إسنا من صعيد مصر..وسُجِلت تلاوته..وأرسلت له الإذاعة بعد ذلك ليتم اعتماده قارئا..ولكن قيل أنه رفض.ولم يوافق إلّا بعد أن أقنعه أحد أصدقائه المقربين ليتم اعتماده قارئا عام-١٩٥٣-عام ثلاثة وخمسين وتسعمائة وألف.ويبدأ رحلة تسجيل القرآن الكريم للإذاعة.
ماذا قالوا عن الشيخ المنشاوى؟
قال عنه الشيخ الشعراوى…
من أراد أن يستمع لخشوع القرآن الكريم.فليستمع إلى المنشاوى..إنّه ورفاقه الأربعة الآخرون(الشيخ..محمود على البنا…الشيخ عبد الباسط عبد الصمد…الشيخ..محمود خليل الحصرى..والشيخ..مصطفى إسماعيل.)إنّ هؤلاء القرّاء الخمسة يركبون مركبا و يبحرون فى بحر القرأن الكريم ولن يتوقف هذا الإبحار حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
الشيخ عبد العزيز ابن باز…
قال عن صوت المنشاوى..إذا أردت أن تستمع إلى القرآن الكريم كما نزل..فاستمع إلى الشيخ المنشاوى…رحمه الله..فإنّه صوت لاتمَلُّ منه أبدا..كينبوع ماء طاهر متدفق يروى العطشان. وكان الشيخ الألبانىُّ يبكى عند سماع صوته.وكان يترك ما فى يده عندما يبدأ المنشاوى فى القراءة. وكانت جماعة التكفير يكفرون جميع القرّاء.( وهذا خطأ عقائدى) إلّا قارئا وحيدا.ألا وهو الشيخ المنشاوى..وقد عللوا.هداهم الله..لذلك.بقولهم..من المستحيل أن تخرج الروحنيات..وهذه الحلاوة من قلب كافر.
قال عنه الشيخ أبو إسحاق الحوينى…. ما أظن أحدا من القرّاء قرأ القرآن مثل هذا الشيخ..
وقال عنه الشيخ عمر عبد الكافي..أكرمه الله… الشيخ المنشاوى من أعذب الأصوات..وأكثرها خشوعا.إنّه يقرأ القرآن وقلبه يرتجف خشوعا.
وقال عنه الشيخ أيمن سويد.. حفظه الله..
الشيخ المنشاوى يقرأ القرآن وكأنما يقرأ فى الجنة.
وأقول كنت أنا وأحبابى عندما نستمع إلى الشيخ المنشاوى.كأنما يصلى بنا إماما ونحن نسجد على ضفاف حُنْجُرَتِه.
وقال عنه الموسيقار..محمد عبد الوهاب…ما من قارئ للقرآن الكريم يمكن التعليق عليه.إلّا الشيخ المنشاوى الذى يمثل حالة استثنائية يحار أمامها الذائق الفاهم. من يتأمل مخارج الحروف عنده لايجد لها وصفا..وذاك لما منحه الله من حُنْجَرَةٍ رخيمة ونبرة شجيّة تلين لها القلوب والجلود معا..ويتجلى ذلك عند ختامه للتلاوة.فتراه يستجمع كلِّ إبداع التلاوة فى آخر آيتين.بحيث يجعلك تعيش معه أشد لحظات الخشوع على الإطلاق.وما عليك إلّا أن تتأمل استرساله مابين السرعة والتلقائية العجيبة كما فى سورة الإسراء..وبين الهدوء وخفض الصوت فى سورة العلق عند قراءته… (كلا إنَّ الإنسانَ ليطْغَى.إن رآه استغنَى.إنَّ إلى ربّك الرُّجْعَى.)
محاولة تسميمه:
تعرض الشيخ المنشاوى لمحاولة قتله عن طريق تسميم أحد الأطباق..فما الحكاية!؟..قرأ الشيخ المنشاوى فى مأتم فى مكان ما.وكان أحد مبغضيه وحاسديه وشأنيه يضمر له الشرَّ.فأوعز إلى طباخ صاحب المأتم أن يسمم طبقا معينا ويضعه أمام الشيخ.ولكن شاء الله..عزّ وجلّ..أن ينجى الشيخ المنشاوى.بأن قال له الطباخ عن تلك المؤامرة..فاعتذر الشيخ عن تناول أى شيئ.ولكى لايغضب صاحب المأتم تناول لقمة من طبق آخر.وشاء الله..سبحانه وتعالى أن ينجو الشيخ بأعجوبة من محاولة تسميمة.
وأنا أشك فى هذا..لأن مريدى كلِّ شيخ…أحيانا…ينسجون الأساطير والروايات المفتعلة..والقصص الغير حقيقية.ولقد سمعت من الشيخ.الطبلاوى قصة يتحدث عن محاولة تسميمه عن طريق وضع السُّم فى فنجان القهوة.والله أعلم بالحقيقة.
المنشاوى يعتذر عن القراءة أمام عبد الناصر:
بعد قيام ثورة يوليو..جاء مندوب من مجلس قيادة الثورة للشيخ المنشاوى.قائلا له.لكم الشرف أن تقرأ القرآن أمام الرئيس..فقال الشيخ المنشاوى:ولماذا لايكون له الشرف بأن يستمع إلى القرآن من الشيخ المنشاوى.فحدثت بينهما جفوة إلى أن مات الشيخ..وقال المنشاوى كلمته المشهورة…لقد أرسل لى عبد الناصر أسوأ رسله.
وهذه الرواية ربما يعتريها العور..وعدم الصدق..لأن عصر عبد الناصر كان يتسم بالبطش بمعارضيه.عصر زوار الفجر.ووراء الشمس.
قصة بناء مسجد باسم أبيه:
بنى الشيخ المنشاوى بيتا كبيرا..وكان تحت البيت مساحات واسعة..حاول بعض الأحباب أن يجعلوها جراجا فرفض المهندس ذلك.فحاول الشيخ أن يؤجر تلك المساحة لأحد البنوك.أو لمصلحة البريد..ولكن شاء أن يبنى لله مسجدا.بمشورة جاره النصرانىّ..وأطلق عليه مسجد الشيخ.. صدّيق المنشاوى.
وفاته:
فى عام-١٩٦٦-أُصِيبَ الشيخ بمرض دوالى المريئ..ومع ذلك ظلّ يواصل القراءة رغم مرضه.مما أدّى إلى تفاقُم حالته الصحية ممّا عجّلَ بوفاته.فى العاشر من يونيو عام -١٩٦٩-عن تسعة وأربعين عاما. رحم الله الشيخ المنشاوى رحمة واسعة..وجزاه خير الجزاء.
فبرُغْم قِصَرِ عمره فقد رزقه اللهُ البركة.
* كاتب المقال: موجه اللغة العربية بالأزهر الشريف سابقا.