يتّهمني بعض أخواني بأنّي تركتُ عروبتي إلى لبنانيّتي فكنت أجيبهم بأنّ الذي يناضل من أجل حريـة لبنان يناضل أيضاً من أجل كلّ العالم العربي ، وقد قلت في أحد خطبي ، إنني أفضّل أنْ أعيش مستقلاً في بلدة “كفرذبيان” ، على أنْ أعيش في أمبراطورية عربية مرتبطةٍ بأحلافٍ ومحكومةٍ من الأجنبي .
رياض الصلح (1)
يوم كان لبنان واقعاً تحت أشرس إحتلال عثماني كان يتمتّع بظاهرة إستقلالية خاصة ، حتى إنّ المتصرّف بحسب البند الرابع عشر من نظام لبنان الأساسي كان عليه أن يستشير مجلس الإدارة الوطني في الجبل إذا شاء أن يطلب من سوريا إمدادَهُ بالجنود .
وحين راحت مظاهر استقلال لبنان تتقلّص تباعاً ، منذ أن أرسى قواعدها الثنائي : بشارة الخوري ورياض الصلح ، وصلنا مع أشباه الرجال إلى يـوم أصبح الإستقلال فيه أشبّـه بالإحتلال .
الإستقلال بالمعنى الفلسفي حـدّده الفيلسوف الإلماني “كانـط” في كتابه “ماورائية الأخلاق” بعدم خضوع الإرادة لشريعة مفروضة من الخارج .
وبالمعنى الفلسفي ذاته يجسّد “حـي بـن يقظان” لأبـن طفيل ، الإستقلال بأنّـه لا يخضع في إدارة أمـورهِ إلاّ للقوانين العقلية التي يكتسبها بذاتـه .
وبالمعنى العربي ، يقول إبـن منظور في معجم “لسان العرب” : إستقلّ الطائر في طيرانه ، أيْ نهض وارتفع .
والإستقلال بالمعنى المسيحي ، يشخّصهُ كمال جنبلاط في كتابه “أحاديث الحرية” صفحة : 47 ، فيقول :
“إنّ أول حركة إستقلالية منتظمة كانت سنة 1875 عندما أسّسَ شبانٌ من خريجي الجامعة الأميركية جمعيةً سرّيـة وكانوا جميعهم من المسيحيين ، ثم أدخلوا معهم 32 عضواً من العناصر المسلمة والدرزية وكان للجمعية فـرعٌ في دمشق وهي أول محاولة إستقلالية في العالم العربي ..”
وحتى لا نعقّـد الأمور كثيراً بالمعنى الفلسفي والمسيحي للإستقلال ، ومن باب فلسفة التبسيط الشعبي نستحضر ما يقوله : “أبو ملحم” في إحدى زجلياته:
شعب يمـزّق ألـف جلال حتى ينال استقلالو
وشعب يدوس الإستقلال حتّى يحافظ عَ جلالـو
وبين الجلال والإستقلال بالمفهوم الشعبي ، يكون الفقـر والجـوع والفساد والـذلّ هو أيضاً إحتلال …
ويصبح الحكم الذاتي الذي يجـرّ البلاد إلى الإنهيار ، والشعب إلى الإحتقار هو أيضاً إحتلال .
لا … ليس صحيحاً ما يردّدهُ بعض المشكّكين بأنّ لبنان نـال إستقلاله بلا ثمـنٍ وبلا دم .
في أعقاب اعتقال الشيخ بشاره الخوري ورفاقه في 13 تشرين الثاني 1943 إنتفضت بيروت : الكتائب والنجادة بقيادة الشيخ بيار الجميل ، فاعتُقل الشيخ بيار الجميل وجُـرح .
وضمّت انتفاضة النساء الإستقلاليات بقيادة زلفا شمعون مختلف الطوائف مخترقة الشوارع إحتجاجاً(2) .
وثارتْ مظاهرات في بعلبك ، وشهدتْ مدينة طرابلس مجزرة سنغالية كان من ضحاياها 13 شهيداً ، وسقط في مدينة صيدا ستون شهيداً بين قتيل وجريح(3) وتمـزّق جسد الشهيد سعيد فخر الدين إبـن عيـن عنوب بالرصاص وهو يستلّ سيفـه لقطع عنـق سائق دبابة كانت تستهدف حكومة بشامون(4) .
هذا بعضٌ خاطف من لقطات التاريخ الإستقلالي ، ففي أيِّ نـوع من الإستقلالات نحن اليوم ، وأيـن هو لبنان وشعب لبنان ومسيحيّو لبنان من الإستقلال بالمعنى الفلسفي للفيلسوف الإلماني “كانط” ، “والفيلسوف” اللبناني “أبو ملحم” .
وقد أصبحنا في وطـن اللاّوطن وفي دولـة اللاّدولة وفي دولة اللارئيس وفي استقلال اللاّ إستقلال .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.