يقولون : إنّ مَنْ يذهب إلى المحكمة يربح هـرّةً ويخسر بقـرة ، ولكنْ ، بعض مَنْ يذهب إلى المحكمة عندنا يربح بقـرةً ويخسر هـرّة .
أسارعُ إلى القول : إنَّ ما يعنيني هنا هي حريَّـة الرأي ، وليس الدفاع عن الإعلامية ديمـا صادق في الحكم الذي صدر ضدها بسبب كلامٍ إتَّهمـتْ بـهِ تياراً سياسياً بالنازية .
فإذا كان الإتهام بالنازية نتيجة تعرّض أحـد مواطني طرابلس لعمل غير إنساني ، فيكون من الأجدى أنْ يقاضي الحكم مَـنْ اتُّهـم بالجـرم وليس من اتُّـهمَ بالوصف .
ثـمّ من قال : إنّ الوصف بالنازية يشكّلُ اتهاماً …؟ مَنْ يقرأ تاريخ “هتلـر” يدرك أنّ هتلـر عندما كان طفلاً أراد أن يكون كاهناً ، ولأنه كان نباتياً قـام بابتكار قانون ضـدّ العدوانية للحيوانات ، ولكنَّ هتلـر عندما مارس الحكم إنتفضتْ فيه غريزتُه الوحشية .
القاضية التي أصدرت الحكم الجائر ضـدّ الإعلامية ديمـا صادق ، أيَّ حكمٍ مثلاً كانت ستُصدر باسم الشعب اللبناني على مَـنْ حرموا اللبنانيين نعمة الضـوء وآخـرَ رمـقٍ من مستلزمات الحياة …؟
أعظم الملوك والرؤساء كانوا يتهيّبون قلـم الصحافي ، وكم من قلـمٍ أسقط أطغى الأباطرة عن عروشهم ، عندما وضع نابوليون الصحافة تحت رحمة مدير الشرطة بـدأت أمبراطورية نابوليون بالإنهيار .
قيصر روسيا خاطب القلـم بقوله : “جميل أنت أيها القلم ولكنك أقبحُ من الشيطان في مملكتي” ويقول الرئيس الكوبي كاسترو : “لا أخاف بوابـة جهنم ولكنني أرتعش من صـرير قلم الصحافي” … ونحن اليوم بين الشيطان وجهنّم لا نـزال نتحرّش بالقلم .
في الأنظمة الديمقراطية ، إنّ حريـة التعبير هي أثمـن حقوق الإنسان ، وفي الأنظمة الدكتاتورية ، يتحول الصحافي إلى بـوقٍ إعلامي مهمته الدعاية للدولة – على فسادها – والتمجيد بالرؤساء والزعماء .
إذاً في أيِّ نظامٍ وأيِّ صحافةٍ نحن اليوم …؟
هذا النوع من الأحكام الذي استهدف حريـة الإعلام بعد مجموعة كثيفةٍ مماثلة ، جعل أهل الدولة – على انهيارها – يمسخونها بوصمة ديكتاتورية .
سنة 1936 أحـد أعظم الصحافيين وأبرز الأدباء الفرنسيين “شارل موراس” كتب مقالاً دعا فيه إلى ذبـح رئيس وزراء فرنسا “ليون بلوم” على عتبة البرلمان بسكين المطبخ ..” فحكم عليه بثمانية أشهر أيْ بأقل من الحكم الذي صـدر ضـدّ ديمـا صادق .
وسنة 1948 ، وفي احتفال خطابي في قاعة السينما في حلب ألقى الشاعر عمـر أبو ريشة قصيدة تناول فيها رئيس وزراء سوريا جميل مردم وبحضوره ، من المفيد ذكـرُ بعض أبياتها للرؤساء عندنا بهدف الموعظة والعبرة :
أمّتي كـمْ صنمٍ مجَّـدتهِ لـمْ يكنْ يحملُ طهرَ الصنَمِ
لا يـلامُ الذئبُ في عدوانهِ إنْ يَـكُ الراعي عدوَّ الغنمِ
كيف تحمي أمّـةٌ عزّتَها وبها شبـهُ جميل المردمِ
إنّ أرحام السبايا لم تلِدْ مجرماً منْ مثلِ هذا المـجرمِ .
وعندما نظم نـزار قباني قصيدة “خبز وحشيش وقمر” بما حملتْ من تهجّم على الحكام العرب ، طلب المجلس النيابي السوري من وزير الخارجية خالد العظم إتخاذ إجراءات تأديبية ضـد نـزار قباني ، فقال الوزير : نـزار قباني السفير هو موظف جيد يؤدّي عملَـهُ على أفضل وجـه ، أما نـزار قباني الشاعر فلا سلطة لي عليه .
الملك الفرنسي هنري الرابع أدرك حقيقة سلطان الأقلام فقال : “لو أنني شنقتُ كلّ من كتبوا ضدّي لما وجدت في مملكتي ما يكفي من المشانق ، فسمحَ للشعراء وكتّاب المسارح بالسخرية منه” ولهذا فقد أدانت الثورة الفرنسية جميع الملوك الفرنسيين إلاّ هنري الرابع فظلّ يحتلّ المكان الأول في قلب الشعب .
هذا بعضٌ قليلٌ من شواهد كثيرة تعمّدتُ الإشارة إليها حتى تكون راسخة في ذهـن المسؤولين والحكام ، الذين لا يفهمون حقيقة جوهر لبنان ، وقد قيل للشاعر أبي تمام : “لماذا تقول ما لا يُفهم فأجاب لماذا لا تفهمون ما يقال” .
ولعلّ أصدقَ ما يجب أنْ يُفهم ويقال : إنّ الحكم الصّادق على ديمـا صادق، هو نتيجة للحكم “الصادق” في ممارسة الحكم .
* كاتب المقال وزير لبناني سابق.