في جلسةٍ جمعَتْني مع غبطة البطريرك بشارة الراعي منذ يومين في الديمان ، كانت جولـةٌ حـول واقع لبنان الداخلي ومآسيه ، وكان عرضٌ لما تقدِّمه الـدول من دعمٍ للبنان ، فإذا العالم كلُّه شرقاً وغرباً تجنَّد وشـدَّ العزْم ليقدِّم للبنان الدعم .
ورحنا نعـدّ : هناك “المجموعة الدولية لدعم لبنان” أطلقها الأمين العام للأمم المتحدة في أيلول 2013 وتتألف من : الأمم المتحدة ، الولايات المتحدة ، الصين ، روسيا ، فرنسا ، بريطانيا ، إلمانيا ، إيطاليا ، الإتحاد الأوروبي ، وجامعة الدول العربية .
وهناك اللجنة الخماسية الدولية : تتألف من : الولايات المتحدة ، فرنسا ، مصر ، السعودية ، وقطر .
وهناك الثنائية الفرنسية – السعودية … والمبادرة القطرية .
هذه الـدول الكونيّة كلّها ، مجمتمعةً ومنفردةً ، تشكّلت واجتمعت وقرَّرت أن تدعم لبنان ، ولا يزال لبنان يتراكم حولـه الدعم ، كمثل ما يتراكم فيه الإنهيار والدمار ، والنزاع والفراغ .
أقصى ما قـدَّمه هذا العالم دعماً للبنان ، “هو الأسف لعدم انتخاب رئيسٍ للجمهورية” ، بالإضافة إلى دعـم أدبي تمثَّل بقصائد الرثاء حيناً وقصائد الهجاء حيناً آخـر .
وأقسى ما تلقّاه لبنان من دعم دولي ، هو قـرار دعم اللاّجئين السوريين فيه ، على حساب الواقع التعدّدي وتوازن المكوّنات ووجوديَّـةِ الكيان .
في ضـوء هذا العرض، وفي انتظار ما يجود بـهِ شهر أيلول من وعـد ، استخلصتُ مـنْ غبطة البطريرك أنّـه يشدّد على الرهان الداخلي وهو في صـدَدِ التحضير لموقف يتخطّى التجاذبات الداخلية والملهاة الخارجية لمواجهة الإستحقاق الرئاسي والواقع اللبناني الخطير .
وفي العودة إلى الرهان الداخلي ، نقتطع بعضاً من خطاب السيد حسن نصرالله في “يـوم الجريح”(16 – 3 – 2023) فيقول : “تعالوا نعطي الملف الرئاسي بُعداً داخلياً ، قرارنا بأيدينا ، من ينتظر تسوية إيرانية – أميركية سينتظر مئة عام أو تسوية إيرانية سعودية سينتظر طويلاً .
هذا يعني ، أنـه إذا اتّفقت كـلّ أمم الأرض على حـلّ لمشكلة لبنان وبقي اللبنانيون على انقسامهم المحموم فلن يكون هناك حـلّ ، بل سننتظر مئـة عـام ، وبتعبير آخـر : يستطيع قائـد الحصان أن يقود الحصان إلى الماء ، ولكن لا يستطيع أنْ يجبـرَهُ على الشرب .
في زمـن المصالحات الحتميّة بين دولٍ تورّطت بالصراع حتى النزف بالدم ، وحين تتحقق الإتفاقات الصارمة : بين السعودية وإيران ، وبين الدول العربية وسوريا ، وبين قطر والإمارات ، وبين تركيا ومصر ، وحتى بين إسرائيل وبعض العرب ، لا نـزال نحن نعيش في الزمن العربي الجاهلي ، في زمـن حـرب “البسوس” بين قبيلتي “تغلب وبكر” والتي دامت أربعين سنّـة ويزيد .
بعض الدول ، والسعودية بالأخصّ استطاعت أن تحـرّر نفسها من عقدة الهيمنة الدولية فأكَّدت ذاتها الوطنية وتألّبت حولها الشقيقات وصنّفت نفسها واحدةً بين كبريات دول المنطقة .
مضى ذلك الزمان الذي كان يُسمّى عهد الحمايات الأجنبية في لبنان ، ومضى الزمان الذي كان فيه للعرب نصيرٌ دولي إسمه “توماس لورانس” حامل لقب لورانس العرب ، وقد رفض وساماً من الملك البريطاني ليجعله يدرك أنّ قلّـة الوفاء للعرب تضـع شرف بريطانيا العظمى على المحكّ ، وهذه خيانة تشكّل لطخة عـار لـن تمحى في تاريخ بريطانيا(1) .
نعم … العودة إلى الـذات الوطنية ، وكيف نستبيح لأنفسنا أن نستمرّ في إنشقاقات متصارعة والوطن على سرير الإحتضار ، كأننا شعب واحد في دولتين أو كأننا أمام تأسيس دولة أخرى من جديد ، فإذا كنّا لا نستطيع أن نتوافق على استحقاق وطني فكيف إذاً نستطيع أن نتوافق على استحقاق الوطن .
في انتخابات 1952 الرئاسية احتدمت المعركة بين كميل شمعون وحميد فرنجية فاقترح يوسف سالم أن يجتمعا ويقوما بإحصاء النواب ، فمن يحظى بتأييد أقـلّ ينسحب للآخر ، وعندما تـمّ إحصاء النواب وقـفَ حميد فرنجية وبارك للمرشح كميل شمعون ، وفي اليوم التالي أنتخب شمعون رئيساً بالإجماع .
عاش ذلك اللبنان – ورحم اللـه الرجال .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – من كتاب : خطُّ في الرمال : جايمس بار – ص. 380 .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.