سألني أحدُ السياسيين العتاق : مَـنْ هو برأيك الشخص الذي تـراهُ مؤهَّلاً للرئاسة ، بين الذين يتمّ التداول بأسمائهم ، أو مـمَّن هم خارج هذا التداول ..؟
فقلت : تسأل عن الشخص أوْ عن الشخصيّة ..؟ لأنّ كلمة الشخص مثلما تُطلق على الإنسان تطلق أيضاً على التمثال .
طبعاً .. لا أُجاري الرئيس ميشال عـون : “بأنّـه لا يرى أحداً مؤهَّلاً للرئاسة فيما “جبران” غير مرشح …”
بلْ أرى ، أنّ لبنان بما هو عليه من تراكم الإنهيارات وتضخُّم الأزمات ، لا يصـحّ معه انتخاب شخص إسمهُ الرئيس ، بقدر ما يحتاج إلى رجـلٍ قائد : بمجرد أنْ تطرح إسمَهُ يخيّم على البلاد مناخُ الإرتياح ، ويحلّ في النفوس إنتعاشُ الأمل .
ولأنّـني ، لا أرى بعدُ ، هذا الجواد الأصيل في ميدان السباق ، فإنّ الذين يطرحون أسماءَهم علناً أو ضمناً لهذا المنصب المهيب في هذا الظرف العصيب ، لا يتهيّبون خطورةَ المرحلة .. والذين يسنّون أسنانهم لهذه الولاية ، وفي أفواههم أضراس الحليب ، لا يقدّرون حجم أعبائها ، وهذه خفّـةٌ بالمسؤولية والجمهورية وأهمية المقام .
مع أنّـه من المحتّم الملحّ – والبلاد هذه حالها – أنْ نحمل قنديل “ديوجين” ونفتّش في واضحة النهار في لبنان وبلاد الإنتشار عن هذا المؤهّل الرئاسي القيادي، ونتوسّل إليه ليقبل بهذه المهمة مع كلّ ما تحمل من أوزار ومشقّات .
لا يصّح في لبنان المدمّر ما قاله الفيلسوف الغزالي : “بأنَ كيمياء الحظوظ في البلاد المتخلّفة هي التي تصنع القادة …” ولا تصحّ كيمياء الشاعر إبـن الرومي في قوله :
إنَّ للحظِّ كيمياءً إذا ما مسَّ “شيئاً” أحالَـهُ إنساناً .
لفتَني موقف قائد الجيش جوزف عـون مع وفـدٍ من نقابة الصحافة حين قال :”إن موضوع الرئاسة لا يعنيني، لم يبْحثْـهُ أحدٌ معي ولم أبْحثـهُ مع أحد …” حتى ولو كان هذا القول يتلاءم مع المثـل المأثور : “طالبُ الولاية لا يُولّى” .
عندنا في ممارسة الحكم رجالٌ ونماذج : إستعرضوهم : أربعة عشر رئيساً منذ الإستقلال ، وقد راحت الرئاسة بعد عهود الأوائل تنخفض انحداراً حتى أدنى خواتيهما .
حين كان في لبنان رئيسٌ قائـد ورائـد : كان في لبنان حياةٌ وسيادةٌ وبحبوحةٌ واستقرار .
وحين كان في لبنان رئيسٌ مستعار ، كان فسادٌ ودمار ، وكلّما أشرقتْ شمسٌ ذاب ثلج .
الرئيس القائد ، ليس ذلك الذي يصنّفُ نفسه ، ويخلق الألقاب لنفسه ، وبالأوسمة يرصّع صدرَه بنفسه ، بل هناك تحليلٌ نفسي بحسب ما جاء عند “فرويد – “Freud حول اختبار شخصية الرئيس وقدرته القيادية وتبيان خصائص صانع القرار ، وهناك دراسات تتناول مختلف أطوار حياته ، ولا تتكوّن الشخصية القيادية بتدريب الأنصار على التصفيق لمن يحبّ حـرق البخور .
كان في لبنان كثيرٌ من المؤهّلات والشخصيات والطاقات القيادّية ، هجَّرتْهم البندقية منذ حرب 1975 ، مِنْ هذه الشخصيات مَـنْ استُبعد ، ومنهم مَـنْ استُهدف ، ومنهم من هاجر ، ومنهم من اعتكف ومنهم مَـنْ مات : ولم يكن عند البابا جنودٌ لردْعِ هتلر ، فاستمرّت البلاد محكومةً بما كان شائعاً في القرون الوسطى “نصفا اللـه البابا والأمبراطور ..”
لعلّ أخطر ما ارتكبته المنظومة السياسية الحاكمة منذ 1975 حتى اليوم ، ليس الإستئثار بالسلطة ، وليس انهيار الحكم ودمار البلاد وما ارتكبت من فساد، فهذا قد يُعوَّض ، وإنما هذا الخصام العنيف والإنقسام المخيف على مستوى الأقطاب والزعماء ورؤساء الأحزاب ، وقد انعكس خصاماً وعداء وكراهية على مستوى القاعدة الحزبية والقاعدة الشعبية هنا وهناك ، ما ليس مِـنَ المتيسّر معالجته على صعيد وحدة الشعب ووحدة الوطن .
يقول كمال يوسف الحاج في “موجز الفلسفة اللبنانية – ص. 26 : لقد أخفقت السياسة في لبنان وجاء دور التاريخ ، وتاريخ لبنان يضع محكمة صارمة لسياسة اللبنانيين …”
هذه السياسة التي أخفقت جعلت لبنان أشبه بالمدن اليابانية التي تُبنى على أرض بركانية ، ولكنّ الزلازل لم تمنع المهندسين في اليابان من أن يستمروا في البناء حين تحدّوا قوة الزلازل بما اكتشفتْهُ قـوّة العقل .
ماذا … ألم يبقَ لنا مـنْ حيلةٍ نحن ، إلاّ أنْ نستورد عقلاً من اليابان …؟
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.