يقول المتنبّي وهو يمدح سيف الدولة :
الجيشُ جيشُكَ غيرَ أنّك جيشُهُ في قلبـهِ ويمينـهِ وشمالـهِ
كـلٌّ يريـدُ رجالَـهُ لحياتـهِ يا مَنْ يريدُ حياتَهُ لرجالهِ .
هذا كان ، على عهد الملك سيف الدولة الحمداني ، أمّا على عهد سيف الدولة اللبناني ، وسيفِ الشعب اللبناني العظيم ، فكلُّ ما كان عظيماً أصبح عظاماً .
وحدَها مؤسسة الجيش بقيَـتْ محافظةً على ما تبقّى من المحرّمات الوطنية المنتهكة ، ولـوْ لـمْ ترفض قيادة الجيش تأديـةَ التحيّة خضوعاً للأهواء الشخصية ، لكانَ الشرفُ العسكري تمرَّغ في الوحل السياسي ، كمثل ما يكون الوزراء موظفين عنـدَ وليِّ النعمة يتلقّون منه الأوامر ، فيما الوزير هو حاكم ، ولا يصحّ أن يتحوَّلَ الحاكمُ إلى خادم .
نحن في زمـنٍ لا يحتمل الكثير من المُزاح … حولنا العواصف تهبّ من كلّ صوب … الدولةُ والقيادات والمسؤولون والزعامات أجسامٌ عارية في سفينةٍ تتقاذفها الأمواج ، وكلُّ سفينةٍ بلا قبطان يسطو عليها القرصان .
في ظلّ هذا النزوح السلطوي ، والتشرذم الوطني ، والفوضوية السياسية ، والغيبوبة الشرعية ، يبقى الرهان على الشعب والجيش ، فإنْ لم يكن الشعب هو جيشُ الجيش ، والجيشُ هو جيشُ الشعبِ وحزبُ الشعب وطائفةُ الشعب ، فإنّ أيَّ تجربة جديدة تعرّض الجيش للإهتزاز ، صلّوا بعدها على لبنان وسلمّوا .
يقول السيد حسن نصر الله في إطلالتة التلفزيونية بعد أحداث “الطيونة” 19/10/2021 : “يجب أن نكون حريصين على مؤسسة الجيش وهي الضمانة الوحيدة لوحدة لبنان ، إذا فَـرطَ الجيش يذهب البلد إلى حرب أهلية ، وإنّ وحدة لبنان وهوّيتَهُ في هذه المؤسسة ..”
هل يعلم الذين لم يولدوا عندما وقعت حرب 1975 ماذا حـلّ بلبنان ..؟
يوم انقسم الجيش ، أصبح الوطن أوطاناً ، وأصبحت الأرضُ شعاباً ، وأصبح الشعب شعوباً ، وأصبحت بيروت شرقيةً وغربية ، وأصبحت الدولة مزرعة تتقاسمها الميليشيات .
والذين جعلوا من أنفسهم عسكريين بلباس مدني ، ومدنييّن بلباس عسكري ، على أكتافهم النجوم وفي أيديهم السيوف ، أصبحوا في غياب الجيش منجمّين بلا نجوم وتحوّلت السيوف في أيديهم إلى خناجر .
والذين عرّضوا الجيش اللبناني للإنقسام في محنـة 1975 ورشقوه بالسهام المسمومة لم يجدوا من بعد إلاّ الجيش حامياً لأرواحهم مدافعاً عن نفوسهم محافظاً على رؤوسهم .
كلّ هزائم الدول وانقساماتها في التاريخ ، لم تنهض ولم تستقم إلاّ بواسطة الجيش ، هكذا قال في أعقاب الثورة الفرنسية أمين سرّ الجمعية الوطنية “دوبوا كرانسيه – Duboie Crancé ” : “لا تنتظروا النصر من عدد الجيوش بل من نسبة التقدم الذي تُحرزِهُ روحُ الجمهورية في صفوف الجيش ، إن وحدة الجمهورية تفرض وحدة الجيش لأن الوطن ليس لـه إلا قلبٌ واحد .”
الرئيس فؤاد شهاب كان هو الرئيس القـوي والحاكم الأقوى بفضل وحدة الجيش وعنفوان الجيش ، وبذلك استطاع أن يلتقي أكبر رئيس عربي : جمال عبد الناصر ، في تقاسم الخيمة بالتساوي بين الحدود اللبنانية – السورية ، وحين رحنا نستجدي رواتب الجيش أصبحنا نعيش تحت خيمة الآخرين .
بين جيش سيف الدولة والمتنبّي : إمّا أن يكون الجيش في الأنظمة الدكتاتورية سيفاً في يـدِ سيّـد النظام يستخدمة آلـة لقطع الألسنة وكـمِّ الأفواه وإطاحة الرؤوس ، وإمّا أنْ يكون في الدول الديمقراطية سيفَ سيادة الدولة وسيادة النظام وحامي الحضارات ، وقديماً قيل : إنَّ وراء إنتصارات الإسكندر كان دائماً “أرسطو” .
هذا الجيش قيادةً وأفراداً تُـرفَعُ لـهُ القبَّعات ، وهو لا يزال صامداً بالرغم مـمّا أصاب البلاد من مِحَـنٍ ، يؤدَّي دورَهُ بمسؤوليةٍ عالية وحُرفيّـة مسلكية مع ما يتقاضاه من هزيلِ الأَجْـرِ وما يعانيهِ من سِعَـةِ الصبر .
إنقسموا إذا شئتم حول الحكم والحكومة والإستحقاق الرئاسي ، وتقاسموا كلَّ أشلاء الدولة ، فهذه جريمة ، أمَّا أن تنقسموا حول الجيش فهذه خيانة ، وخَوَنـةُ الأوطان يُعلّقون على حبال مشانق التاريخ .
*كاتب المقال: وزير لبناني سابق.