كأننا نسيْنا أننّـا في دولة على شفيـر الإحتضار ، وكأنّ وظيفتنا أنْ نترنّح على وقـع طبول الحرب ونرقص من الألـم .
ونسيْنا أننّـا جمهورية بلا رئيس ، ونسينا كلَّ مآثـر التاريخ ، والنسيان مرضٌ قاتل للشعوب كما يقول شارل مالك : “إذا أردتَ أن تقتل شعباً فعليك أنْ تجعله ينسى ذاكرتَـهُ وتاريخه ..”
تقول المعاجم إنّ الإنسان سُمِّيَ إنساناً لأنـه ينسى ما عُهـدَ إليه ، ولكنّه عند الفلاسفة حيوانٌ ناطق يتميّز بالحسّ والعقل والإدراك والقوى النفسيّة ، يصنع الأشياءَ ويصنع نفسَهُ … وإلاّ فقد تسيطر حيوانيَّتهُ على إنسانيّته .
والإنسان كما يقول الفيلسوف الفرنسي “باسكال” : ليس ملكاً ولا حيواناً ومِـنْ تعاستِهِ أنّـه إذا أراد أنْ يكون ملكاً صار حيواناً …”
ومع هذا ، فليس هناك مملكةٌ بلا ملك ، ولا جمهورية بلا رئيس ، وليسَ كلُّ ملكٍ وكلُّ رئيسٍ يمكن بالضرورة أن يتحوَّل إلى حيوان .
إذا كانوا لم ينْسوا أنْ يمدّدوا لقائد الجيش ، وقد استطاع ساحرُ المجلس النيابي أن يستخرج من الأكمام الأرنبَ الأبيضَ والأرنبَ الأسودَ بالرغم مـمّا يفصل بينهما من فوارق ، فهلْ تعجز لعبةُ الأكمام عن استخراج الإستحقاق الرئاسي حتى ولو استوجبَ الأمـرُ جزيرةً من الأرانب ..؟
وهل إنَّ “قلّـة الوفاء وخيانة الأمانات” التي اتُّـهم بهما قائد الجيش تنطبقان أيضاً على المرشح الرئاسي …؟
ومثلما أنّ قائد الجيش يجب أن يكون وفيّـاً لمن عيّـنَهُ ، فعلى المرشح الرئاسي أن يكون أيضاً وفيّـاً لمن رأَّسَـهُ ، وإلاَّ فمن أجل أن يركبَ شخصٌ على الكرسي يبقى لبنان سنتين ونصف السنة بلا رئيس ، ومن أجل هيْمنـةِ شخصٍ آخـر تبقى الجمهورية بلا رأس ..؟
هذا أمـرٌ يطرح موضوع بُنْيـةِ الدولة وسلَّم هيكليِّتها على بساط بحث معمّـق ، حين تتحول شتى الرئاسات والمؤسسات وملاكات الموظفين في الدولة إلى ممتلكات خاصة .
مثلما كان ويكون اختيار المرشحين للنيابة والوزارة خاضعاً لإرادة السلطان، بأنْ يفرض عليهم أن يوقّعوا مسبقاً بيانَ الخضوع لصاحب النعمة ، فإنْ همُ عارضوا أو اعترضوا يتعرّضون للإقالة ..
هذه النزعة التسلّطية كانت هي الإيديولوجية الطاغية في القرنين : الثامن عشر والتاسع عشر بحيث يصبح الحاكم أشبه بشبحٍ آلهـي وتصبح معه أجهزة الدولة آلـةً متحركة تحت رحمته .
ثمّـة سؤال تاريخي يحتاج إلى جواب : كيف نتعامل مع وطـنٍ تتجاذبـهُ أشداقُ القـدر وتتقاذفه أهوال الخطر ، ولا يزال هناك مَـنْ يخيّلُ إليهم أنهم يرتفعون إلى القمّـة على وقـع انهيار التاريخ ، وليست لهم آذان في آذانهم ..؟
في معزل عن قرارات المراجع الدولة واللجنة الخماسية واستلهام الروح القدس ، يبقى الأمر يحتاج إلى موقف وقرار ، والقرار ملكُ أيدينا ، عندما نشاء ، فمتى إذاً نشاء ..؟ ومتى نتداعى إلى كلمة سـواء ، أليسَ أنّ الأحقاد تذهب فـي الشدائد ..؟
في الحرب العالمية الأولى حين شنّت ألمانيا الحرب على فرنسا ، إستدعى الرئيس الفرنسي (ريمون بوانكاريه – Poincaré) زعيم المعارضة جورح كليمنصو ودعاه للتعاون في سبيل إنقاذ فرنسا ، فقال كليمنصو : “أنت تعرف كم أنا أكرهك ، وأنا أعرف كم أنت تكرهني ، ولكن مصلحة فرنسا تبقى فوق هذه الكراهية” .
فمن هو هذا الـ “الكيمنصو” عندنا الذي يتعالى عن الأحقاد إنقاذاً للبنان ليصحّ فيه قول الشاعر :
خدمَ البلادَ وليس أشرفَ عندَهُ مِنْ أنْ يُسمَّى خادماً لبلادهِ .
*كاتب المقال وزير لبناني سابق.